Pages Menu
Categories Menu
«نسويات غاضبات»: في أبعاد «أنا أيضاً» العربية

«نسويات غاضبات»: في أبعاد «أنا أيضاً» العربية

المصدر – القدس العربي – محمد سامي الكيال

عادت الحملات ضد التحرش لتشغل مكانة بارزة في الجدل الثقافي والاجتماعي في العالم العربي، هذه المرة بدرجة من الانفصال عن سياقها العالمي، أو الأمريكي على وجه الخصوص، الذي شهد خفوتاً نسبياً لهذه الحملات، لدرجة أن الاتهامات بالتحرش لم تمنع جو بايدن من الترشح للرئاسة الأمريكية عن الحزب الديمقراطي، الذي ادعى دوماً قيادته لتحالف «أقليات»، قضايا النساء في صدارة اهتماماته.
خصوصية السياق العربي حالياً ليست ثقافية بقدر ما هي سياسية، تأتي الحملات ضد التحرش في إطار حراك اجتماعي نشيط لم يتوقف لأكثر من عقد من الزمن، ومواجهة مع البنية القانونية والأيديولوجية للدول القائمة، التي تحاول بدورها ترميم هيمنتها المهتزّة. قد يُخاض الصراع عربياً إلى حد ما على مستوى «مُصغّر» Micro، كما يحدث أحياناً في الدول الغربية، أي على مستوى الممارسات والأقوال الصغيرة والجزئية، التي يُستخلص ويؤول مدى التمييز والاعتداء فيها من لا وعي المعتدي المتمتع بـ«الامتياز»، أو من إحساس «الضحية» الذاتي غير القابل للترجمة. ولكن هذا يبقى جانباً ثانوياً للغاية من الصراع الدائر، المبالغة في التركيز عليه تُهدر سياقات أكثر صلابة ومركزية. فمن البلدان التي شهدت ثورات ناجحة نسبياً، مثل السودان وتونس، وصولاً لدول تعثّر التغيير فيها، مثل مصر والمغرب والعراق، استطاعت فئات اجتماعية مُستغلّة، ومُميزٌ ضدها قانونياً واجتماعياً، ومنها النساء، فرض حضورها سياسياً، وجعل قضاياها في صدارة الجدل العمومي. بهذا المعنى فإن الاستنساخ الحرفي للنقد الموجه لجانب من النسوية الغربية، الأقرب لسياسات الهوية، أو اختزال القضية بعلو صوت «نسويات غاضبات»، لا يبدو واعياً للغاية بالمسائل الأساسية التي يدور حولها النقد والجدل عالمياً ومحلياً، وعلى رأسها الحيز العام، الهوية، القانون ومفهوم «دولة القانون»، الطبقة و«الشعب» والصراع على الهيمنة، السياسات الحيوية وحرية التعبير.
لم تتجاوز الحركات النسوية يوماً هــذه القضايا، بل كانت دوماً في قلب النزاع الاجتماعي الدائر حولها، وأضـــافت لها كثيراً على المستوى السياسي والنظري، من النضال، لأجل تعميم حق الانتخاب للجميع، مروراً بتفكيك الهوية الجندرية نفسها، واكتشاف قيمة «العمل المنزلي غير المأجور»، وصولاً لطرح أهمية القضايا النسائية في بناء الائتلافات السياسية متعددة المطالب. فإلى أي درجة يمكن لـ«النسويات الغاضبات» إعادة طرح قضايا مماثلة عربياً؟ وكيف يمكن تأويل هذا «الغضب»، وما يثيره من غضب مضاد؟

ترجمة الغضب

تواجه النساء عربياً إشكالاً كبيراً في التعبير عمّا يتعرضن له من اضطهاد، خاصة على المستوى الأكثر حميمية: عليهن أن يقدمن رواية متكاملة، تحوي تفاصيل صادمة، أو شديدة القسوة، كي يفسّرن للمجتمع مدى الضرر والأذى الذي يخلّفه الاعتداء على أبسط حقوقهن الجسدية والاجتماعية. وهو اعتداء مُطبّع معه اجتماعياً وقانونياً، عن طريق سلسلة من التشريعات، مثل قوانين جرائم الشرف والآداب العامة والأحوال الشخصية، والتعريفات الجنائية للتحرش والاغتصاب، المنحازة دوماً ضد من وقع عليه الفعل الجنائي.
اضطرار النساء الدائم لسرد رواية صادمة لاستعطاف المجتمع، أو البنى الذكورية المتصلّبة في جهاز الدولة والجماعات الأهلية، قد يعرضهن للبقاء على الدوام في موضع الضحية السلبية، إذا أردن نيل شيء من حقوقهن، الأمر الذي يخلّف غضباً، لا يمكن إنكاره، ضد بنى اجتماعية، لا يمكنها فهم التمييز، إلا إذا طُرح بلغة مستثيرة للنخوة.
معاناة النساء مع التمييز المجتمعي والقانوني، ليست فقط معاناة للهوية الأنثوية، بل أيضاً علامة على الاختلال الكبير في المنظومة القائمة، لا يمكن الحديث عن ديمقراطية أو مساواة أمام القانون، أو حياد للدولة في مجتمعات تقيّد حركة وحريات النساء، وتشرعن العنف أو الاعتداء عليهن نظراً لجنسهن، وتمنع عنهن حقوق مواطنة أساسية، مثل منح الجنسية لأولادهن، أو تسلّم مناصب معينة في جهاز الدولة. وبالتالي ليست المشكلة في غضب النسويات، بل في أن هذا الغضب لا يتحول إلى غضب اجتماعي وسياسي عام، خاصة لدى الحركات السياسية والاجتماعية التي تدّعي السعي للتغيير. ربما كان كثير من هذه الحركات لم يدرك بعد أن هذه القضايا أصبحت بديهية، منذ الموجة النسوية الأولى. فكيف بقضايا أخرى ترسخت بفضل عقود من النضال النسوي، مثل الحرية في التعبير الجسدي، تفكيك نموذج العائلة الأبوي، المطالبة بحقوق النساء العاملات، سواء بأجر أو بغير أجر، إلخ. تشير الأحاديث الغامضة عن «ثقافة اجتماعية»، تمنع طرح مثل هذه القضايا، إلى نزوع هوياتي لدى كثير من الحركات التقدمية العربية، وليس إلى هوياتية النسوية العربية.
ترجمة «الغضب النسوي» إلى لغة عقلانية مشتركة، يمكن للجميع في الحيز العام فهمها والتعاطي معها، ليست مهمة فردية موضوعة على عاتق النساء، بل مهمة سياسية أساساً، من المفترض أن تكون في قلب أي سعي للديمقراطية في العالم العربي. والتقصير بهذا يُبقي المسألة عالقة بجوهرانية الهوية الجندرية، ويجعل معايرة بعض النساء بـ«غضبهن» عملاً يدل على غضب ذكوري فعلي، من اختلال توازن البنى الأبوية، بعد بروز قضايا النساء في الحيز العام.

«أنا أيضاً» بالعربي

بالنسبة للمفكرة البلجيكية شانتال موف فإن الائتلافات السياسية متعددة الفئات والمطالب، التي تسعى لفرض هيمنتها على جهاز الدولة، وتسييد حسها السليم في الحيز العام، في حاجة إلى «دوال هيمنة»، تُصلّب الائتلاف السياسي وترمز لوحدته، وهذه الدوال قد تكون الزعامة الكارزمية، أو قضية ما يمكنها أن تكثّف بذاتها كافة المطالب المتنوعة. ولعل قضايا النساء، حسب موف، أفضل مثال عن القضايا، التي يمكن أن تشكّل دالاً للهيمنة.
تعرّضت طروحات موف في السنوات الأخيرة لنقد شديد، بعد فشل معظم الحركات الشعبوية اليسارية، التي استلهمت أفكارها، ولكن يبقى أن فكرة «دال الهيمنة» شديدة الحضور في معظم الحركات السياسية عبر التاريخ، المثال العربي الأبرز هو السودان: الدور الذي لعبته النساء السودانيات في الثورة، وتركيز الحركات السياسية والنقابية على رفع قيود النظام الإسلامي عن النساء، كانا «دال هيمنة»، ساهم بتوحيد الائتلاف الشعبي، الذي نجح نسبياً بتحقيق مطالبه. فضلاً عن هذا استطاعت النسوية السودانية، إلى حد كبير، توحيد الجندري مع الطبقي، ولنتذكر الدور الذي لعبه «اتحاد بائعات الشاي والأطعمة»، وقوامه نساءٌ من الأكثر فقراً، في نجاح الثورة.
من جهة أخرى يؤكد المفكر الإيطالي أنطونيو نيغري على الدور الطليعي للنساء في الحركات الاجتماعية، وبالتحديد الجهد الذي تبذله آلاف النساء للسيطرة على دورهن في عملية إعادة إنتاج الحياة، مثل الــــولادة، الجنســـانية، مســتوى الدخل، رعاية الأطفال والمسنين، التعامل مع الأرض والبيئة، إلخ، وهو عمل موّلد لقيم مادية هائلة للرأسمالية، أغلبه غير مأجور، وسعي النساء للسيطرة عليـــه وتحريره يُطلق جانباً مركزياً من الحيوية الاجتماعية، ويحطّم الأطر الضيقة التي تسجنها فيها المنظومة القائمة. وفقاً لهذا فربما كان طرح «أنا أيضاً» باللغة العربية عملاً مهماً لإنتاج «دوال هيمنة»، وإطلاق الحيوية الاجتماعية في وجه سلطات قمعية قائمة على الهيمنة الذكورية، والحجر على الحيوية.

قوة النساء

إدراك الطاقة السياسية الهائلة للمطالب النسوية يقود إلى مفهوم «قوة النساء»، وهو مفهوم تجذّر طويلاً في حركات نسوية، خاصة حركات النساء العاملات، قبل أن يتعرّض لتأويل مخالف مع صعود سياسات الهوية. يغدو التركيز على الضعف أساسياً في سياسات الهوية: اعتبار التاريخ حكاية اضطهاد طويلة، هُمشت فيها النساء على الدوام، ما يجعلهن مضطرات دوماً لطلب التمكين المؤسساتي، كي يكتسبن القوة، والسعي إلى تطهير التاريخ واللغة، انطلاقاً من موضعهن المتميز في هرمية الضحايا، وهو موضع يجب لأجل الحفاظ عليه التركيز الدائم على خصوصية الهوية النسائية. إلا أن منظوراً متجاوزاً للهوياتية، ودور الضحية قد يوضّح القوة السياسية والطبقية للنساء: الحيوية الاجتماعية سابقة وجودياً على فعل السلطة، والنساء كن على الدوام مشاركات في إنتاج التاريخ واللغة والسياسة، أي أن قوتهن حاضرة سلفاً، وليست في حاجة لتمكين من أعلى، ونضالهن قائم على السيطرة على قوتهن، وليس اكتسابها. الفارق شديد الأهمية، فهو من جهة يخلّص النساء من دور المهمشات، فالعالم الذي نعرفه، ليس مجرد عالمٍ غارق في «خطيئة الرجل الأبيض»، بل هو، في جانب كبير منه، من إنتاج وحيوية النساء، ويحقّ لهن بالتالي التحكّم بمنتجاتهن؛ ومن جهة أخرى يقي هذا المنظور من التعامل الهزلي مع الثقافة والتاريخ وقضايا الحيّز العام: لا تحتاج النساء إلى مساحات آمنة تحميهن من وحشية العالم الذكوري، بل إلى البروز في قلب الحيز العام، والمساهمة في تسييره، باعتبارهن منتجات ولسن ضحايا. بهذا المعنى فلا يمكن لأي نضال عربي يركّز على الحقوق الأساسية أو الاجتماعية أن يهمل قوة النساء، فالطبقي مرتبط بالجندري والجنساني، ويمكن لمفهوم «التضامن»، غير الهوياتي، أن يُلخّص هذا الارتباط.

شاركنا رأيك، هل من تعليق ؟

Your email address will not be published. Required fields are marked *