ميسا صالح – الجمهورية | ثمة مزيج من التوجس والانتباه والترقّب في الأوساط السورية المتنوعة عند النظر إلى النسوية السورية، وكثيراً ما يتم وضعها في قوالب نمطية ترسم حولها توقعاتٍ وانتقادات، وتطالبها بشكل مستمر بتوضيحات عن هويتها وماهيتها، وبإثبات قدراتها واستحقاقها للتواجد في الحيز العام، وبكشف نواياها ومشاريعها.

دخلت النسوية السورية موجة ومرحلة نضال جديدة تزامناً مع انطلاق الثورة السورية عام 2011، التي كانت فرصة لانطلاق وتصعيد كثير من النضالات السورية على مستويات متعددة، وسعت وما تزال تسعى لتحقيق تغيير سياسي واجتماعي ينقل سوريا من حكم استبدادي ذكوري أُحادي، إلى حكم تعددي ديمقراطي يحقق العدالة والمساواة للجميع وبدون أي تمييز.

تعمل النساء والنسويات السوريات بأشكال وأنماط مختلفة، سواء كنِسويات وناشطات مستقلات أو من خلال العشرات من التشكيلات النسائية والنسوية، منها حركات وتجمعات ومنظمات ومؤسسات، وذلك بمشاريع وبرامج مختلفة ومتنوعة، تتقاطع وتختلف في الكثير من الأفكار والتوجهات وآليات النضال، كلٌّ حسب موقعها وتطلعاتها.

لا يقتصر العمل النسوي اليوم على تلبية احتياجات النساء وتحسين أوضاعهنّ الاجتماعية والقانونية فقط، بل يتعدى ذلك ليدخل في صلب مسائل الهوية الجندرية والأدوار الاجتماعية،  وثنائية الذكر والأنثى والنظريات والفلسفات المتعلقة بالدور الجندري والاجتماعي لكلٍ منهما، وفق رؤى تسعى إلى تحليل وتفكيك المنظومة الذكورية التي تحدد هوية وعلاقة البشر بكل شيء، وإلى تقديم مراجعة دقيقة للعلاقات وشكلها وتحديد المسافة بين ما هو ذاتي وما هو عام، وبشكل يومي.

أين تقع النسوية السورية من كل هذا؟؟

خضتُ نقاشات متعددة مع نسويات سوريات داخل وخارج سوريا، منهنّ مديرات أو يعملنَ في مؤسسات نسوية أو مستقلّات. وكل واحدة من هؤلاء النساء، اللواتي شاركنني أيضاً جزءاً من سيرتهنّ الذاتية أو فضّلنَ التغطية على هويتهنّ لحماية أمنهنّ الشخصي، تبذل من موقعها وإمكانياتها جهداً كبيراً في حياتها اليومية من أجل الوصول إلى مستقبلٍ تكون فيه المجتمعات السورية، بتعدُّدها واختلافها، خالية من العنف والتمييز، وتتشاركنَ الحلم بمساحات آمنة وعادلة للنساء، تبدأ من بيوتهنّ ولا تنتهي بالمساحات العامة.

كان التركيز الأساسي في النقاش حول العمل السياسي النسوي، والمنتج الثقافي والفكري والمعرفي النسوي، بالإضافة إلى نقاشات حول وضع المنظمات النسوية والمشاكل والتحديات التي تواجهها في تحقيق ما تتطلع إليه.

النسوية السورية والنضال السياسي

يُعدُّ الحق في المشاركة والتواجد الفعال والمتساوي في الحياة السياسية للنساء من أهم النضالات التي تسعى إليها النسويات والنساء السوريات، وذلك منذ عصر النهضة إلى يومنا هذا، إلا أن الوضع السياسي شديد التعقيد والتداخل، الذي يسيطر عليه الذكور بشكل كامل في الحالة السورية اليوم، يقسم النسويات السوريات إلى قسمين؛ أحدهما يرفض العمل السياسي بمعناه المباشر ضمن المعطيات والتشكيلات الحالية، وآخر يؤمن أن تواجد النساء في الحياة السياسية مهما كان شكلها وفعاليتها هو نضالٌ لا بد منه.

الدكتورة مية الرحبي طبيبة وناشطة سياسية ونسوية، كاتبة وباحثة، ومديرة منظمة مساواة/مركز دراسات المرأة، وخبيرة في النوع الاجتماعي وفي قضايا العنف القائم على الجندر، وقضايا المرأة، والسلام والأمن: «النسوية السورية هي عمل سياسي أكيد، وأُعرِّفها كحركة سياسية تسعى لتغير النظام الذكوري القائم. وفي رأيي أن كل حركة تسعى للتغيير في هيكلية الحكم القائم، هي بمضمونها حركة سياسية، لذلك فإن العمل النسوي بشكله العام هو نضال سياسي. لكن العمل السياسي النسوي لا يعني الدخول في معمعة السياسية الذكورية الموجودة حالياً، وبرأيي أن الحل في القضية السورية لن يأتي عبر ذهابنا للمفاوضات، وهذه حقيقة أصبحنا ندركها جميعاً».

في العام 2001، وفي سياق ربيع دمشق والسنوات التي تلته، شاركت الدكتور ميّة الرحبي في تأسيس عدد من منظمات المجتمع المدني، وكانت عضوة في اللجنة التنسيقية للجان إحياء المجتمع المدني، كما شاركت في تأسيس منظمات نسوية عدّة، وكانت منسقةً للمبادرة النسوية عامي 2002 و2003، ثم رئيسة لمنظمة «معاً» لدعم قضايا المرأة 2004-2009، ونظّمت وشاركت، منذ العام 2002 وحتى اليوم، في العديد من المؤتمرات الدولية المتعلقة بالنسوية والمساواة الجندرية.

وعلى الرغم من أن الدكتورة مية كان لها دور نَشط في إطار المفاوضات من أجل السلام في سوريا، التي رعتها الأمم المتحدة، كعضوة في «غرفة المجتمع المدني» التابعة لمكتب المبعوث الخاص لسوريا عامي 2015-2016، ثم في هيئة التفاوض لقوى الثورة والمعارضة عام 2017، ومن المُؤسِّسات للحركة السياسية النسوية السورية التي تم إطلاقها في باريس عام 2017، والتي تضم العديد من النسويين والنسويات السياسيات السوريات العاملات بالشأن العام، إلا أنه «سرعان ما خذلها الجو السياسي العام الذي لا ينسجم مع نظرتها وتطلعاتها للعمل السياسي»، تقول: «لقد ذهبتُ باسم الحركة إلى هيئة التفاوض، واكتشفتُ لاحقاً أن ما يتم طرحه هناك لا يمثلنا، وليس ما نسعى إليه، لذا انسحبتُ من هيئة التفاوض، وكانت الأغلبية في الحركة السياسية النسوية ترى أن لا طريق لنا سوى طاولة المفاوضات، لذا انسحبتُ أيضاً من الحركة السياسية النسوية. أنا لا أرى أبداً أن اللجنة الدستورية بتشكيلاتها الحالية سوف تتبنى، ليس فقط المطالب النسوية، بل أنا أرى أنه حتى المطالب الديمقراطية لا يمكن الوصول لها عن طريق اللجنة الدستورية».

تضيف الدكتورة مية: «بعد كل هذه المحاولات، بتُّ أُؤمن أن الحل يأتي من خلال إنشاء قاعدة شعبية مؤمنة بقضايا العدالة والحريات والحقوق، والتضامن مع المجموعات التي تشبهنا في كل العالم. حلفاؤنا لن يكونوا السياسيين الذكوريين الموجودين اليوم في النظام والمعارضة. وقد يكون من الممكن تغيير النظام السياسي الاستبدادي القائم خلال عشرين أو ثلاثين سنة، أما تغيير النظام الذكوري القائم فهو يحتاج إلى مئة وربما مئتي عام. والعمل السياسي النسوي له منهجية مختلفة عابرة للأجيال، تؤسس بنية أساسية للأجيال القادمة من النساء. لذلك أنا لن أبذل اليوم أي جهد في هذه التشكيلات السياسية، وإنما سأضع جهدي بالكامل من أجل تمكين النساء السوريات على الأرض لامتلاك وعي نسوي وسياسي، لأن خطتي طويلة الأمد. أنا أدعم وأُدافع عن وجود النساء في مراكز القرار في منظمات المجتمع المدني، والهيئات الاقتصادية والاجتماعية، أمّا في المؤسسات السياسية الموجودة وبهذه الصيغة فأكيد لا. قد أدعم وجود نساء في تنظيمات سياسية تنشأ من جديد، تتبنى رؤية سليمة لسوريا والنساء. نحن اليوم كسوريين (وليس فقط كنسويات) عاجزون تماماً ومصيرنا ليس بيدنا للأسف، ولكن هذا لا يمنع أن نعمل للمستقبل كي نستعيد قرارنا ومصيرنا، لكن أن نحقق السلام عن طريق طاولة المفاوضات الموجودة اليوم، فأنا أستبعد ذلك».

ترى الدكتورة مية أن العمل النسوي في جذره سياسي، وأنه يمكن للنسويات السوريات إيجاد مساحة خارج إطار التشكيلات والهيئات السياسية، التي وصفتها بأنها «ذكورية» ومفروضة على الحياة السياسية السورية، عبر منظمات مجتمع مدني نسوية. وتعزز نظرتها هذه من خلال تطبيقها في منظمة مساواة، التي تهدف بشكل أساسي إلى تغيير النظام الذكوري القائم. تقول: «في مساواة اليوم نعمل على مشاريع مختلفة، وعلى عدة جبهات وأصعدة، مثل مشاريع تشرح أهمية تغيير القوانين ولا سيما قانون الأحوال الشخصية، وتغيير مكانة وتمكين النساء، وتوفير وتعزيز الثقافة النسوية، بالإضافة إلى تغيير الرأي العام بما يخص واقع النساء وأدوارهنّ وحقوقهن ومشاركتهن في الحيز العام، وإنهاء العنف ضدهنّ. إلى أن نصل لقاعدة شعبية نسوية تكون  مدركة لذاتها ولحاجتها للتغيير، وحاملاً أساسياً للنضال من أجله».

بالمقابل، لا توافق السيدة ديما موسى، وهي محامية وسياسية سورية مارست مهنة المحاماة في الولايات المتحدة حتى نهاية العام 2012، على فكرة الابتعاد ومقاطعة النسويات ونأيهنّ بأنفسهن عن العمل السياسي ضمن التشكيلات والهيئات السياسية الحالية: «في رأيي أن النسوية والعمل النسوي لا يمكن فصلهما عن السياسي، لأن النضال السياسي هو ما يضغط باتجاه تغيير القوانين ووضع السياسات، وإذا فرغ العمل السياسي من أصوات النساء، هذا يعني أن النسوية لن تحقق أهدافها وتطلعاتها من خلال الالتزام فقط بالعمل كمنظمات مجتمع مدني، التي بالتأكيد يمكنها فتح النقاشات وتقديم التوعية وغيرها من الأنشطة، لكن دون التواجد في الحياة السياسية لن يتحقق شيءٌ من التغيير الحقيقي».

بدأت المحامية ديما تجربتها السياسة عام 2016 في التوسعة التي قام بها الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، وشغلت منصب نائبة رئيس الائتلاف لدورتين متتاليتين، من أيار 2018 إلى تموز 2020. تتواجد ديما في الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة كمستقلّة، كما تتواجد في اللجنة الدستورية  في أحد مقاعد الائتلاف. ومن أجل ربط عملها السياسي بالعمل النسوي، تنشط ديما كعضوة مؤسِّسة في  «الحركة السياسية النسوية».

في الائتلاف الوطني، ومن بعده الهيئة العليا للتفاوض، واللجنة التفاوضية، واللجنة الدستورية، ومنذ تأسيس هذه الهياكل جميعاً حتى اليوم، لم تكن أي امرأة سورية في الرئاسة التي كانت دائماً حِكراً على الرجال. وحتى اليوم، لم تحقق كل هذه التشكيلات «الكوتا» النسائية المطلوبة، والتي تطالب بتمثيل لا يقل عن 30٪ للنساء. لكن رغم ذلك، ما تزال السيدة ديما تؤمن بإمكانية تغيير هذا الواقع، وبفاعلية تواجد النساء السوريات في هذه التشكيلات، وترفض الآراء التي تقول بأن تواجد النساء في التشكلات السياسية الحالية هو تواجد شكلي أو غير مؤثر، أو أن النساء لا يؤخذنَ على محمل الجد: «نحن نلاحظ أن معظم النساء اللواتي يتواجدنَ في الأجسام السياسية يحضرنَ كمستقلات، وذلك رغم أن الائتلاف يضم الكثير من الأجسام والأحزاب والتيارات والتجمعات التي تتواجد ككتل سياسية وبصفتها ووزنها السياسي، لذلك أرى أن وجود النساء كمستقلّات هو ما يعيق إحداث تغييرات حقيقية في مكانة وتأثير المرأة في العمل السياسي»، وتضيف: «لأننا بالأساس غير متواجدات ككتلة، وكوننا الى اليوم لم نحقق حتى الكوتا (30٪)، وهو الرقم الذي يسمح بأن تكون النساء مؤثرات باعتباره رقماً مُرجِّحاً يحقق ضغطاً إن وجد في البرلمان أو التكتلات والأحزاب السياسية. طبعاً أركز هنا على موضوع المستقلات والتكتلات لأنني أريد أن أوضح أيضاً أننا كسياسيات مستقلات لسنا صوتاً واحداً، فالنساء المتواجدات في الائتلاف وهيئة التفاوض واللجنة الدستورية هنّ نساء (ولسنَ بالضرورة نسويات)، من خلفيات وأيديولوجيات مختلفة ومتنوعة، ولا تتفقنَ على رؤية سياسية واحدة.  فمنا من هي يسارية وإسلامية وإخوانية وعلمانية، وهذا ما يسِّهل عمليات استقطاب وتجاذب أصوات النساء المستقلات لصالح الكتل الموجودة ضمن الائتلاف (والتي لا تسعى  بالضرورة لتغيير واقع المرأة، وليس هذا الجانب من أولويات برنامجها السياسي) وخلق تحالفات إيديولوجية أو سياسية قد لا تصب في مصلحة واحدة ورؤية واحدة، فيضيع صوت النساء كنساء ويتماهى مع الكتل الموجودة كل واحدة حسب توجهها».

عند مناقشة السيدة ديما في السبب وراء عدم تحقيق «الكوتا النسائية» بعد مرور هذه السنوات على العمل السياسي في هذه التشكيلات، وما إذا كان هناك رفضٌ مباشر وواضح في هذه التكتلات لتواجد النساء في الحياة السياسية، أوضحت: «لا يوجد تكتل رفض بشكل علني وواضح، ولا حتى بالممارسة، لكن لا يخلو الموضوع دائماً من التشكيك في قدرة النساء على ملء المكان أو المقعد السياسي، ودائماً نسمع أن المرأة تحتاج لتمكين سياسي، ودائماً ما يتم الاعتراض على هذا الطرح. لا يجوز افتراض أن الرجل يولد بالفطرة لديه إمكانيات سياسية ويفهم بالسياسة، ولا يوجد شيء يقول إن المرأة يجب أن تخضع لتمكين سياسي قبل دخولها للحياة السياسية، كما لو أنها متخلّفة سياسياً عن الرجل بالفطرة».

ترى ديما أن شيطنة العمل السياسي للنساء، من قبل جهات مختلفة، أدى إلى خلق صور نمطية حول النساء السياسيات، خاصة فيما يتعلق بحياتهن الاجتماعية والشخصية. وترى أن نأي النسويات بأنفسهن عن الانخراط في التكتلات السياسية الحالية، وانسحابهنّ لصالح العمل المدني، جعل الصراع أمام النساء السياسيات اليوم أصعب: «أرى أن وجود عدد أكبر من النساء في الحياة السياسية يجعلنا نبني تحالفات ضاغطة بشكل أكبر، وكلما زاد عدد النساء يكون لهنّ تأثير أكبر وقدرة على خلق وإضافة وجهات نظر نسوية للعمل السياسي. وأنا أعلم أن النساء أنفسهن قد يكنّ متواجدات في الائتلاف، أو هيئة التفاوض، أو اللجنة الدستورية، أو هيئة التنسيق وغيرها، وذلك لأن عددنا قليل جداً ومتواجدات في كل مكان، والسبب أننا ننطلق من إيماننا أن كل هذه الأجسام السياسية يجب إلّا تكون خالية من الأصوات النسائية».

تقول أيضاً إن انخراطها في المجال السياسي، وكذلك الدستوري/القانوني، كان له دور كبير في اهتمامها وتركيزها على مفهوم المواطنة المتساوية، وحقوق المرأة، والدفع باتجاه تعزيز دور المرأة في الشأن العام والعمل السياسي، وأهمية تثبيت ذلك دستورياً وقانونياً. وعن الحركة السياسية النسوية، وتأثيرها على المسار السياسي وموقعها في الأجسام السياسية الحالية، وخاصة فيما يخص عملية التفاوض وصياغة الدستور، تقول ديما «إن الحركة السياسية النسوية جاءت لتلبي رغبة النسويات السوريات بتشكيل جسم سياسي نسوي، وذلك بالتزامن مع قرب اجتماع مؤتمر الرياض 2 وإعادة هيكلة الهيئة العليا للتفاوض. وعلى الرغم من أن الحركة لم تستطع التواجد ككتلة أو كحركة، إلا أنها عملت على دعم النسويات المتواجدات في الوفد التفاوضي كمستقلّات أو منتميات للحركة، وقامت بإرسال رسالة توصية من أجل تحقيق نسب لا تقل عن 30٪ لتواجد النساء في المؤتمر، وتم إرفاق الرسالة باقتراح أكثر من 60 اسماً لنساء سياسيات ونسويات، يمتلكنَ القدرات الكافية للتواجد في العمل السياسي، حتى لا نترك المجال للقول إنه لا يوجد نساء ترغبنَ بالتواجد أو إن النساء غير متمكنات من العمل السياسي. وإلى اليوم، تعمل الحركة النسوية بشكل أساسي على تقديم الدعم الكامل للنسويات المتواجدات في الأجسام السياسية، وتقدم توصيات (غير ملزمة) ذات منظور نسوي للهيئة التفاوضية واللجنة الدستورية».

أما السيدة هند، وهو اسم مستعارٌ (لأسباب أمنية) لباحثة وناشطة سياسية نسوية، تدير منظمة معنية بحقوق المرأة تعمل في دمشق وريفها وأماكن أخرى تخضع لسيطرة النظام السوري، فهي تجد أن انتقال النساء اللواتي كُنَّ ناشطات ثوريات وسياسيات مع بداية انطلاق الثورة السورية، وتحولهنَّ باتجاه تشكيل منظمات نسوية، هو نتيجة استحالة العمل السياسي داخل سوريا، وإن الواقع فرض نفسه وخياراته: «بدأنا بعمل ثوري سياسي في البداية، وعندما تطورت الأحداث واشتد العنف وظهر السلاح، اتجهنا إلى العمل النسوي السري. كنّا في المظاهرات والاعتصامات بوعي سياسي يتكلم عن الديمقراطية والعدالة والحرية وتغيير النظام، وفي قناعتي الشخصية أن توجهنا للعمل النسوي المتخصص هو نتيجة إفلاسنا السياسي وغياب وجود مساحة للعمل لنا. وهنا طبعاً لا أقلل من أهمية العمل النسوي، لكن الثورة وعندما أُشبعت بالمال السياسي والغايات الدينية، أَجبرت الناس التي لا تؤمن بالعنف وحمل السلاح على أن تبحث عن قنوات عمل أخرى، مثلاً العمل الإغاثي الذي سلط الضوء على وضع النساء النازحات ومعاناتهم، وأدركنا كيف يتم استغلالهنّ في كل تفصيل من تفاصيل حياتهنّ، ولذلك بدأنا بالعمل على مشاريع تخص النساء وحقوقهن وسط النازحين والنازحات. واليوم، أرى أن نضال النسوية مرتبط بالنضال الوطني وكل نضالات الفئات المهمشة».

ترى هند أيضاً أن التحول من العمل السياسي إلى العمل المدني النسوي لم يأت فقط بسبب الواقع على الأرض، وإنما أتى استجابة لرغبة المنظمات والجهات المانحة الدولية: «بعد الثورة بدأت المنظمات العالمية تبحث عن نِسويات سوريات لدعمهنّ (خاصة الدعم الأوروبي)، ما أدى لنشوء مزيد من المنظمات النسوية. فيمكننا القول إن تَضيُّق المساحة على الأرض للعمل الثوري، واهتمام المنظمات الدولية، ووجود أجندة تمويل ركزت على العمل في قضايا النساء وطالبت به، سرّعت من خلق مُناخ ملائم للعمل النسوي».

وتضيف أن التمويل بشروطه التي يفرضها على شكل المشاريع والأنشطة التي يجب أن تتبناها المنظمات النسوية السورية، يُشكل ويُؤثر على وعيها السياسي ويفرغها من عمقها الوطني: «في رأيي أن التمويل المشروط للمنظمات النسوية، وخاصة ذلك الذي يركز على مراعاة الأقليات وغيره من الشروط التي تبحث عن مظلوميات محددة، وأحياناً تقوم باختراعها، تجعلنا نشعر أن الجهات المانحة تنظر الى السوريين كدولة مكونات ثقافية ودينية وعرقية وطائفية، لا كدولة مُواطَنة. فدائماً ما يَدّعون أنهم يريدون صون حقوق الأقليات، ويتم التعامل مع الحراك النسوي بهذه العقلية. وعلى الرغم من رفضنا النظر إلينا كدولة أقليات وطوائف، وطلب النظر إلينا كدولة مواطنة تسعى النسويات فيها إلى حقوق متساوية للجميع بغض النظر عن الانتماء الديني أو العرقي أو الطائفي، إلا أن هذا الحديث لا يقنع الكثير من الجهات المانحة ولا يعنيها».

تحدثت هند أيضاً عن التحديات التي تواجه المنظمات النسوية، كما باقي منظمات المجتمع المدني العاملة في مناطق سيطرة النظام، من حصار أمني ورقابة دائمة، تبدأ من الترخيص والموافقات الأمنية المرتبطة به، ولا تنتهي بهيمنة «الأمانة السورية للتنمية» التي تديرها أسماء الأسد على العمل المدني ومنظماته في كافة القطاعات.

تقول هند: «نشعر ونعلم أننا مراقبون طوال الوقت، وأن كل ما نفعله قد يكون سبباً لإدانتنا، وكي نكون واقعيين، يجب القول إننا في الداخل لا نستطيع التعبير سياسياً ولا “نسوياً سياسياً” دون أن نكون خائفين من الاعتقال أو الملاحقات الأمنية، فهناك نشاطات يمكننا القيام بها في العلن، شرط ألا ترتبط بالسياسة بشكل مباشر. أكيدٌ طبعاً أن أي حركة تطالب بتغيير واقع النساء وحقوقهن، فهي تطالب بتغيير القوانين والدستور، وبتالي هو تغيير سياسي. في منظماتنا لا نستطيع العمل بشكل علني على مفاهيم مرتبطة بالعدالة الانتقالية، ونقوم بها سراً لأنها ترتبط بالمحاسبة. ولا يمكننا أيضاً الحديث بشكل واضح عن نظام الانتخابات، لكن يمكننا الحديث عن: ما هو النظام الانتخابي الأمثل لتمثيل النساء بشكل عام؟ ورغم ذلك، دائماً ما نجد طرقاً لنكون فاعلات سياسياً بشكل أكبر، من خلال علاقاتنا والتشبيك والتفاعل مع هيئات ومؤسسات سياسية ونسوية في الداخل والخارج، وخاصة فيما يتعلق بموضوع المفاوضات واللجنة الدستورية، حيث نقدم أوراقاً ودراسات وأبحاثاً نعرض فيها توصياتنا ورؤيتنا حول الدستور والعملية السياسية والتفاوضية».

كيف تُعرّف النسوية السورية عن نفسها وكيف ترى دورها؟

تشغل المنظمات النسوية اليوم حيزاً كبيراً من منظمات المجتمع المدني البديلة التي تشكلت بعد انطلاق الثورة السورية، والتي تتبنى هويات وأهدافاً ورؤى متنوعة، تتقاطع في كثير من الأحيان وتختلف وتتباعد في أحيانٍ أخرى. وتسعى هذه المنظمات إلى تحقيق تغيير في وضع النساء السوريات، من خلال تنفيذ مشاريع تبدأ بالحقوق والاحتياجات الأساسية، ولا تنتهي بمشاريع ذات تطلعات مستقبلية، وبناء استراتيجيات وخطط طويلة الأمد تهدف إلى تفكيك النظام الذكوري المتغلغل في أدق التفاصيل.

تتبنى النسوية السورية بكل تشكيلاتها مفهوم «تمكين النساء»، الذي تم تبنيه في مؤتمر   المؤتمر العالمي الرابع الخاص بالمرأة في بكين عام 1995، وهو المفهوم الذي يؤكّد على أهمية دعم النساء وبناء قدراتهنّ ضمن مجتمعاتهنّ المحلية، وحسب ظروفهنّ المعيشية وحجم التمييز الممارس عليهنّ. كما أنه يُعَدُّ من أهم أدوات تعزيز مبادئ الفكر النسوي، من خلال العمل على تقديم المعرفة البديلة القائمة على تجارب النساء، وربطها مع أشكال التمييز والتحيز المبني على أساس الجنس، وتقاطعها مع قضايا عدة كالهجرة واللجوء وقضايا العرق والانتماء الطبقي والمكانة الاجتماعية والهوية الجنسية، وغيرها من القضايا. وهذا يساعد النساء على فهم المنظومة المجتمعية وشكل الأدوار الاجتماعية التي حُددت لهنّ فيها، ويُمكّنهنّ من المضي في خيارات تتجاوز تلك الحدود والأدوار التقليدية.

تقول السيدة هبة محرز، وهي كاتبة وباحثة ومسرحية نِسوية سورية تعمل في القطاع الثقافي منذ العام 2013، ولها العديد من الكتابات الصحفية والمسرحية: «تعمل كل منظمة نسوية اليوم وفق سياقية مختلفة، وتتبنى نظريات وفلسفات نسوية مختلفة، وتخلق أدواتها التطبيقية التي تراها مناسبة لتحقيق التغيير الذي تطمح إليه. ولا تمتلك النسوية السورية توجهاً وهويةً وانتماءً واحداً، وليس من  ضروري أن يكون هناك تبني لتوجه فكري واحد، أو مدرسة نسوية واحدة، لأننا شاهدنا ولادة كثير من الحركات النسوية والنسائية ذات الخطابات المختلفة، وجميعها تصب في مصلحة عليا أو مصلحة مشتركة للجميع مع الحفاظ على الاختلاف والتنوع في هذه الحركات والمنظمات. أرى أن هذا التنوع في الحركات والأفكار قد يشكل لاحقاً هويةً، والمطلوب هو أن يكون لكل مؤسسة نسوية هوية واضحة، وليس للنسوية السورية عموماً كحركة».

بدأت السيدة هبة الاهتمام بالفكر النسوي منذ دراستها في المعهد العالي للفنون المسرحية في قسم الدراسات المسرحية، حيث ناقشت في سنتها الأخيرة ورقة بحثية عن تطوّر وتغيُّر حضور الشخصيات النسائية في أعمال الراحل سعد الله ونوس، ومنها الدخول في تفاصيل الفكر النسوي وتقاطعه مع الفكر النقدي بشكل أساسي. وهي تعتقد «أن النسوية شكل من أشكال الممارسة اليومية تدخل في المُعاش واليومي كما في العمل والنقاش»، وتعمل مؤخراً منذ العام 2021 مع شبكة الصحفيات السوريات ضمن فريق «جندر رادار»، الذي يناقش «الحساسية الجندرية» في الإعلام السوري البديل/الناشئ. الشبكة مؤسسة ذات فكر ناشطي نسوي تقاطعي، تُعبّر عن هويتها كمؤسسة «تجرؤ على التغيير والتحدي، وتمتلك رؤية تُغيّر صورة النساء في الإعلام وتُعزز خطاباً إعلامياً نسوياً، تأخذ أفكار فريق العمل ذي وجهات النظر المختلفة وتُضمنها في عملها على تحقيق العدالة الاجتماعية».

تقول هبة: «نعمل في شبكة الصحفيات السوريات على تبني النسوية التقاطعية التي تشمل مشاكلنا الأساسية. بمعنى، نستطيع اليوم أن نقول إنه أصبح لدينا مجتمعات من المهاجرين والمهاجرات، ومجتمعات لاجئين ولاجئات، ومجتمعات لانتماءاتٍ طائفية وإثنية، وفكرة المناطق المهمشة، ونتكلم طبعاً عن مجتمع الميم عين. كل هذه الأشياء نفكر فيها من منظورٍ نِسوي تقاطعي، وعندما نريد الحديث بشكل أعمق حول من هي الفئات المهمشة والفئات التي نفكر فيها بالوضع السوري، وتقاطع النسوية معها، نكون سِياقيين بشكل أكثر دقة».

وعن مشروع جندر رادار وأثره على المعرفة النسوية تقول: «في مشروع جندر رادار نقوم بدراسة خطاب الإعلام السوري البديل أو الناشئ، ونحلل مدى مراعاته للحساسية الجندرية، ومن خلال هذا البرنامج نعمل على عدة مستويات، فنحن نقدم إنتاجاً معرفياً متعلّقاً بتقاريرَ وأبحاث عن مواضيع تخص العدالة الجندرية والعدالة الاجتماعية في الإعلام السوري، ونراقب التغطيات الإعلامية ونناقش خطابها بهذا الخصوص، دون أن نكون طرفاً إعلامياً بديلاً، أي أننا لا ننتج محتوىً خاصاً بما يتم تداوله من المواضيع، وانما نُقيّمُ ونُحلّلُ ونَنتقدُ التغطية الإعلامية من خلال عدسة نِسوية وحسّاسة للجندر».

تضيف هبة: «لدينا شراكات ضخمة مع مؤسسات إعلامية سورية بديلة، ولدينا مشاريع وتدريبات تقدمها الشبكة للمؤسسات والصحفيين والصحفيات حول موضوع الحساسية الجندرية، ويتم مناقشة السياسات التحريرية وتقديم تقارير تفصيلية، تكون خاصة بمؤسسة إعلامية معينة ولا تكون للنشر، نقيس فيها مثلاً حساسية هذه المؤسسة خلال فترة معينة، ونُقدّم اقتراحات وتوصيات لتمكين المؤسسة من تطوير خطاب حسّاس للجندر. وكذلك من خلال برنامج الحماية الذي يعمل على نقاش بيئات عمل آمنة للصحفيات، ومتابعة أوضاعهنّ والمطالبة بحماية لهنّ، ومع منصة قالت التي تنفي الحجّة المستخدمة دائماً حول عدم وجود خبيرات نساء في المواضيع المختلفة، وبالتالي تقدم المنصّة قاعدة بيانات للخبيرات السوريات، ليتم التواصل معهنّ وتعزيز حضورهنّ في منصات الإعلام المختلفة، وبالتالي كسر الهيمنة الذكورية على القطاع الإعلامي».

أما عن منظمة مساواة – مركز دراسات المرأة، فهي تُعرِّفُ عن نفسها «كمنظمة نسوية، تعنى بشكل خاص بقضايا المرأة، وتمكينها ومشاركتها في جميع مناحي الحياة، وسبل القضاء على جميع أشكال التمييز ضدها، سعياً لنيل كل مواطنٍ حقوقه في ظل الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة. والتي تأسست في دمشق في الشهر الثاني من عام 2012، ورخصت في فرنسا عام 2017».

تقول الدكتورة مية الرحبي: «نعمل في مساواة على تدريب نساء لإجراء أبحاث ميدانية بإشراف الجمعية السورية للعلوم الاجتماعية، وتم إنتاج مجموعة من الأبحاث عن العنف ضد المرأة، وهذا العام عملنا على مشاريع بحثية عن قوانين الأحوال الشخصية للنساء السوريات، وتأثير فقدان الأوراق الثبوتية على أوضاعهنّ، وفي نهاية العام الحالي سيتم إنتاج كتاب يضم جميع هذه الأبحاث. كما أن لدينا “المدرسة النسوية” التي تعمل على تعليم وتدريس المفاهيم النسوية والجندرية بمستويات مختلفة، وإسقاطاتها على السياق السوري. كما أنتجت منظمة مساواة في العام الماضي أبحاثاً ميدانية متعددة قامت بها باحثات نسويات سوريات عن موضوع العنف ضد المرأة في السياق السوري، وسيتم نشرها في كتاب أيضاً، كما أن لدى منظمة مساواة مجموعة من المشاريع التي تهدف إلى تعزيز المعرفة النسوية لدى الناشطات النسويات، وتغيير الرأي العام بما يتعلق بالصورة النمطية والعنف ضد النساء، وبناء الجسور بين النسويات والنساء داخل وخارج سوريا عن طريق تنظيم المؤتمرات والتدريبات وورشات العمل والحوارات المنظمة. بالإضافة دار نشر “الرحبة” التي ترجمت العديد من الكتب النسوية الهامة، ونشرت العديد من الدراسات والأبحاث لكتاب ومفكرين عرب».

تهتم الدكتورة ميّة الرحبي، في نضالها النسوي اليوم، بتطوير الوعي الفكري والثقافة النسوية بشكل أساسي، ولها مؤلفات وأبحاث ودراسات عديدة بهذا الشأن، منها كتاب النسوية السورية – مفاهيم وقضايا وكتاب الإسلام والمرأة – قراءات نسوية في أسس قانون الأحوال الشخصية وكتاب المرأة والدستور، بالإضافة إلى تحرير كُتيبيّ الدستور الحساس للجندر والتشريعات الحسّاسة للجندر الصادرَين عن المبادرة النسوية الأورومتوسطية.

وفي الإطار ذاته تضيف الدكتورة مية: «نقوم حالياً مع مجموعة منظمات نسوية سورية أخرى بوضع اللمسات الأخيرة على مشروع “المنصة النسوية السورية”، التي تهدف إلى تقديم المعرفة النسوية باللغة العربية من خلال جمع الأبحاث النسوية السورية ووضعها في خدمة الباحثين والباحثات في الشأن النسوي. وهذه المنصة لن تكون فقط مختصة بالأبحاث السورية، وإنما أيضاً سيتم من خلالها نشر الأبحاث العالمية التي تخدم الباحثين/ات والمفكرين/ات في أبحاثهم النسوية، خاصة تلك المرتبطة بالسياق السوري، وستكون المنصة متاحة لجميع المؤسسات والمنظمات النسوية التي ترغب بنشر إنتاجها المعرفي وأبحاثها وفعالياتها، وسيتم أيضا استكتاب نساء من الداخل من أجل إنتاج مواد بحثية ميدانية عن وضع النساء في سوريا. هي منصة معرفية بالكامل، تسعى للتشبيك المعرفي بين النساء السوريات في الداخل والخارج، والتنسيق بين المنظمات النسوية والتعريف بها. تضم المنصة 6 منظمات مؤسِّسة، ولدينا مسح لـ126 منظمة أو مبادرة نسوية أو تقودها نساء، وسيتم التواصل معها جميعاً للانضمام للمنصة».

لا يقتصر النضال النسوي وتعزيزه للإنتاج المعرفي والثقافي النسوي على المنظمات والمؤسسات النسوية، فهناك الكثير من النسويات السوريات اللواتي اخترنَ العمل بشكل مستقل ولأسباب مختلفة. فمنهنّ من لا تجد في المنظمات النسوية السورية وتشكيلاتها الحالية مكاناً المناسب لتطلعاتهنّ وطموحاتهنّ، أو يجدنَ أن المنظمات غير قادرة على محاكاة جميع الاختلافات والآراء، وخاصة فيما يتعلق بموضوع الحريات الشخصية والهويات الجنسية والأدوار الاجتماعية، وغيرها من القضايا الحساسة التي تجد تقاطعاتها مع النضال النسوي. ومنهنّ من يجد مشاكل في إدارة هذه المنظمات وأدوات نضالها.

رحاب منى شاكر هي نسوية سورية، كاتبة ومترجمة عن اللغة الهولندية، أنهت الجزء النظري من دراسة الطب البشري، وحصلت في عام 2004 على شهادة الماجستير من جامعة ليدن، كما حصلت عام 2009 على شهادة الماجستير في اللغات والثقافات السامية/ قسم عربي من جامعة أمستردام، حيث تناولت في أطروحتها شخصية السجّان في أدب السجون السوري  بين 1980 و2009، ولديها إجازة ترجمة محاكم بدرجة امتياز. تعمل كمترجمة للجالية العربية في الدوائر الحكومية الهولندية، وتترجم أيضًأ أدب الأطفال الهولندي إلى العربية.

اختارت رحاب اليوم العمل والنضال النسوي بشكلٍ مستقلّ، مبتكرة مبادراتٍ نسوية تفاعلية وخلّاقة، كمشروع نادي القراءة «نرجس»، الذي تشرح عنه: «نشأت فكرة لقاءات القراءة بعد بضعة أشهر من إنجابي لطفلي وانطلاقة الربيع العربي وتحول شرارته إلى سوريا. كنتُ بحاجة إلى رفقة تتجاوز مشاكل الحياة اليومية وهمومها، لذلك نظّمتُ مع بعض الصديقات حلقات قراءة باللغة الهولندية لمدة ست سنوات تقريباً. ومع قدوم اللاجئات واللاجئين السوريين إلى هولندا، فكرتُ أن أقوم بعقد لقاءات قراءة باللغة العربية. حاولت الحصول على كتب عربية من الخارج، واستقطبتُ عدداً لا بأس به من السوريات. لن أطيل في وصف هذه المرحلة التي استمرت قرابة السنتين والنصف، لأني كتبت عنها في مقالتي أين هي نوادي القراءة النسوية؟ التي نُشرت في موقع الجمهورية».

تضيف: «منذ بضعة سنوات صار نادينا إلكترونياً، ويستقطب الناطقات-ين بالعربية (وخاصة السوريات-ين) من جميع أنحاء العالم. نجتمع كل شهر لنقرأ كتباً نسوية في أغلب الأحيان، والحضور متنوع ونسائي في أغلبه. أنا سعيدة بهذه التجربة التي استقطبت أناساً بحاجة إلى هذه المساحة، ولطالما وصلتني ردود إيجابية، من قبيل أن النادي انتشلهم من الغربة أو ضغوط الحياة. وأجمل إطراء وصلني من امرأة تعيش في الداخل السوري، حيث قالت إن النادي جعلها تفكر بنفسها أكثر، بدلاً من أن تنشغل طيلة الوقت بموعد انقطاع الكهرباء وقدومها أو بجرة الغاز أو الشتم على الذي كان السبب. يظل حضور سوريات الداخل شرفاً كبيراً للنادي.. ولكن كلّما حاولتُ استقطاب عدد أكبر من المهتمات-ين، صَعُب أكثر اقتراح كتب ضخمة أو مواضيع تخصصية. لذلك نظمت مؤخراً حلقة مغلقة. وهكذا صرنا قادرات أن نقرأ كتاباً ضخماً عن منهجيات البحث النسوي، ونناقشه سوية فصلاً فصلاً. آمل أن تتطور هذه التجربة مع الوقت، وتتحول إلى بؤرة صغيرة للبحث النسوي الحرّ».

كتبت رحاب منى شاكر وترجمت الكثير من النصوص حول المواضيع النسوية، ووضعت تجارب نسوية عالمية وفلسفاتها ونظريتها بين أيدي النسويات والنسويين السوريين لتكون مصدراً معرفياً وثقافياً لمن يبحث عنها، وأجرت حوارات مع نسويات سوريات وكتبت نصوصاً متنوعة  لموقع الجمهورية، مثل نص الحب قضية نسوية الذي تفتخر به. صدرت لها ترجمتان عن دار هنّ في القاهرة: روزا لوكسمبورغ وحنة آرنت بين المد والجزر (للكاتبة يوكه هيرمسين)، وهكذا تكلمت سيمون دوبوفوار (للكاتبة ماريا فاوسيه). وهي أمّ لطفلٍ واحد.

 تؤمن السيدة رحاب أن العمل النسوي ممكن بدون الحاجة الى التمويل، وتعتقد أن التمويل يعوق أحياناً أكثر من أن يساعد، وخاصة «حين يجعلنا نؤمن أننا غير قادرات على فعل شيء من دونه»، وتستشهد بقول روزا لوكسمبورغ: «الحماسة والوعي الناقد هما كل ما نحتاجه». كما تعطي قيمة كبيرة لفكرة التعليم الذاتي، وقدرته على التغيير: «هناك نساء كثيرات لم ولن يحصلنَ على فرص تعليمية مناسبة. هل نقعد عاجزات ونندب حظنا؟ من خلال التعليم الذاتي بإمكاننا تحقيق جزء من أحلامنا، ورفع احترامنا لذواتنا، وشعورنا بقيمتنا الحقيقية كإنسانات. أحياناً أتساءل أين هنّ النساء اللواتي تمكّنَ من الحصول على منحة في الدراسات الجندرية؟ لماذا لا يُدربننا على الأشياء التي يتعلّمنها؟ هل يُعقل أن تبقى الثقافة منفصلة عن الحركة؟».

تصف رؤيتها ودافعها لتقديم وتعميم الثقافة والأفكار النسوية: «نواجه كنسويات مشاكل على جميع الأصعدة، ولكن حين نحاول مقاربتها، نكتشف أننا نفتقد الأدوات والمهارات والذخيرة المعرفية (النسوية). وحين نحاول صدّ هجمات ضد-النسويين، نكتشف أننا لا نملك سوى الألم. تعقيد الظروف وتشتت الجهود (المؤسساتية) واستبداد القهر والفقر واليأس، يجعلنا نكرر أنفسنا وأفكارنا إلى ما لا نهاية. وبما أن الفَرَج لن يهبط من السماء، نحتاج أن نشتغل على أنفسنا أيضاً، أن نقطع عهداً أن نتعلم كل يوم شيئاً جديداً، ونفكر بابتكار أدواتنا الخاصة. لا توجد أدوات نسوية جاهزة يمكن سبرها وتعميمها سلفاً، فالظروف هي التي تخلق الأدوات. نظراً لموقعي الجغرافي واهتماماتي، وجدت أدواتي في الترجمة والكتابة وحلقات القراءة النسوية والدعم المباشر لبعض النسويات الواعدات من خلال ما أسميه “الرفقة المعرفية النسوية”. هذه هي أدواتي، ولكن يمكن لكل امرأة أن تبتكر أدواتها التي تتناسب مع ظروفها الخاصة وإمكاناتها الشخصية. جميعنا لدينا قدرات فريدة ومحيطٌ بإمكاننا التأثير فيه. بناء الكوادر النسوية المتمكّنة معرفياً هو شرطٌ أساسي للتغيير».