عام 2007، نشرت الكاتبة المسرحية النسوية إيف إنسلر مقالًا في مجلة Glamour، بدأته بقولها: «لقد عدتُ لتوّي من الجحيم»، مُستتبعة ذلك بفيض من تفاصيل رحلتها إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية، حيث قابلت «فتيات يكدنَ يَكُنَّ في عمر التاسعة اغتُصِبْنَ من قبل الميليشات العسكرية». تتناول مقالة إنسلر، بحسب عنوانها، «نساءً تُرِكْنَ للموت – والرجل الذي يحاول إنقاذهنّ»، لكنّ ذلك ليس واضحًا بشكل مباشر.

حتى وهي تُفصِّلُ في كتابها معاناة النساء الكونغوليات، تتمكن إنسلر من إبقاء الانتباه مركّزًا حول نفسها؛ فتسأل «كيف أنقُلُ هذه القصص؟»، «كيف أخبركم/ نّ…؟»، «مكثتُ لأسبوع في بانزي بينما اصطفّت النساء ليُخبرنني بقصصهنّ». وما أن انتهت من سرد قصّة فتاة تُدعى «ألفونسين»، وبدلًا من أن تُمكّنَ القارئ من تأمّل تلك القصّة، تكتُبُ: «أنظُرُ إلى جسد ألفونسين الضئيل وأتخيّل الندوب تحت ملابسها البيضاء الرثّة؛ أتخيّل التئام اللحم على بعضه، والعذاب المُضني الّذي شعرت به بعد إطلاق النار عليها. أصغي بعناية ولا أتمكّن من رصد أيّ مرارة أو رغبة في الانتقام».

ومرّة أخرى، تتمكّن من مَرْكَزَةِ السرد حول نفسها عند كتابتها عن عمليّة النواسير الجراحيّة الّتي تحتاجها العديد من النساء ضحايا الاغتصاب، فتكتب: «أجلس خلال عمليّة اعتياديّة… أنا قادرة على رؤية الناسور»، وتستمر هكذا.

يدلّل تركيزها الدائم على ما تفلعه أو تراه هي، عوضًا عمّا تنظر إليه أو تسمعه، يدلّل بقوّة على أنّ غايتها هي إظهار الدور الحاسم الّذي تؤدّيه المرأة البيضاء في حيوات تلك النساء، وكذلك على تحريض قرّاء Glamour؛ فبإمكانهم مراسلة رئيس الكونغو، أو التبرّع للمستشفى الذي يعالج ضحايا الاغتصاب، أو لمركز إعادة التأهيل حيث النساء الكونغوليّات «يتعلّمنَ كيف يصبحنَ قائدات سياسيّات»، وتلك الأفعال كلّها تمرّ عبر الموقع الإلكترونيّ الخاصّ بإنسلر.

تظهر مقالة إنسلر المنشورة في Glamour، كيف تتقاطع عقدة المُنقِذ الأبيض مع النسويّة في القرن الواحد والعشرين؛ إذ تأخذ امرأة بيضاء على عاتقها مهمّة «الحديث باسم» النساء «الأخريات» المغتصبات والمعنّفات بوحشيّة، لتُموضِعَ نفسها منقذةً لهنّ والقناة الّتي يجب أن تتدفّق عبرها عمليّة تحرّرهنّ. كما تشكّل المقالة مثالًا على كيف تتموضع محنة النساء اللّواتي يعشنَ «بعيدًا – هناك» كضدٍّ يُحكَمُ بناء عليه بنجاحات النساء في الغرب. إذ تُشجِّع إنسلر قارئاتها على هزّ رؤوسهنّ أسفًا على الظروف الّتي تعيشها النساء في الأماكن الأقلّ تحضّرًا من العالم بينما يَقُلْنَ لأنفسهنّ: «كم نحن محظوظات».

كما يُلاحَظ أنّ التعريف أو عدم التعريف بالنساء الملّونات مسألة تتبع كلّيًّا هوى النساء البيض اللّواتي يسردنَ القصّة؛ ففي الحالات الّتي فيها من الواجب ذكر أسماء النساء مثل الممرّضات أو العاملات في المجال الطبّيّ، تُسقَطُ أسماءهنّ لأنّ ذكرهنّ قد يحوّل الانتباه بعيدًا عن مركزيّة دور النساء البيض بوصفهنّ مُنقذِات؛ بينما وفي الحالات الأخرى التي تكون فيها السرّيّة مفيدة، مثل عدم تصوير الضحايا أمثال «نادين»، يُقال لنا إنّها وافقت على أن تُصوّر إن ظهرت باسمٍ مستعار.

كذلك تُظهر النشرة السنويّة الصادرة عن «مؤسّسة ميليندا وبيل غيتس» مثالًا آخر على هذه الظاهرة الممنهجة والمتعمّدة، لا سيّما عندما يتعلّق الأمر بالمشهد البصريّ لنساء بيض يتطوّعنَ لمساعدة السود والملوّنين. إذ تَضْبِطُ الصورة الأولى الظاهرة في التقرير إيقاعه؛ فتصوَّر ميليندا غيتس تنحني لتنظر في عينيّ امرأة سوداء مجهولة الاسم تضع كمّامة وتستلقي على سرير المشفى. هنا، تشكّل مجهوليّة الذات المصوَّرة نمطًا اعتياديًّا في هذا النوع من التصوير، وقد نفترض أنّ الاسم قد حُذِفَ لحماية خصوصيّة المرأة، لكنّ النمط يستمرّ في الظهور في أماكن أخرى؛ فحتّى عندما يظهر الملوّنون وهم يشغلون وظائف تقديم الرعاية الصحّيّة عوضًا عن تلقّيها، حيث ليس هناك حاجة للمجهوليّة، يظهرون بلا أسماء. إذ ليس ثمّة غير بيل وميليندا غيتس، الشخصان الأبيضان الوحيدان المعرّفان في الصور الواردة في التقرير؛ فثمّة صور زيارة عيادة «Gugulethu» الصحّيّة تظهر فيها مجموعة من الموظّفين السود والملوّنين غير المُعرَّفين، بينما يُفتَتَحُ قسم الجندر بصورة ميليندا بيل غيتس محاطة من الجانبين بامرأتين هنديّتين ملوّنتين.

يعدّ هذا النمط في التصوير الّذي يركّز على إبراز الجانب الخيّر فعّالًا جدًا حتّى استُخْدِمَ في تطبيقات المواعدة؛ إذ ثمّة موقع إلكترونيّ باسم Humanitarians of Tender، مخصّص لصور النساء البيض الشجاعات والمغامرات (والقليل من الرجال) وهنّ يوزّعنَ الأحضان على الأطفال، ويُشاركنَ في الرقصات «الأصلانيّة» التقليديّة، بحيثُ يُعاد الآن توظيف الأنماط الّتي استخدمتها إنسلر وغيتيس لحشد تأييد عامّ أو دعم ماليّ، يعاد الآن توظيفها لغاية جذب شركاء جنسيّين، وكما هو الحال دائمًا، لا تحضر الوجوه السوداء أو الملوّنة إلّا لتكون مجرّد دعائم في مشروع أبيض.

لا تتوقّف تلك العادة المتمثّلة في التركيز على المرأة البيضاء عند الحديث عن تحرّر النساء الملوّنات على كونها مجرّد أسلوب ثقافيّ ينحصر في تطبيقات المواعدة، ومجلّات الأزياء أو مجلّات المحسنين من أصحاب المليارات؛ بل هي عادة لها جذورها الجينالوجيّة؛ فـ «عقدة المخلّصة النسوية البيضاء» متجذّرة عميقًا في المعرفة والتاريخ وقد تطوّرت لتأخذ شكلها الأوّل في الحقبة الاستعماريّة.

آنذاك، كانت امتيازات الذكور، إضافة إلى الأدوار الجندريّة، قد حدّت من حرّيّات النساء البيض في أوطانهنّ بشكل كبير خلال القرن التاسع عشر، لكنّ ترحالهنّ إلى المستعمرات سَمَحَ لهنّ بإيجاد مخرج استثنائيّ؛ فقد كنّ يتمتّعن في الهند أو في نيجيريا بامتياز كبير هو امتياز البياض، بالرغم من أنّهنّ كنّ ما زلن خاضعات للرجل الأبيض، لكنّهنّ اعتُبِرْنَ متفوّقاتٍ بسبب عرقهنّ مقارنة بـ «الذوات التابعة» المستعمَرة، وقد منحتهنّ هذه الأفضليّة آليًا قوّة وحرّيّة أكبر ممّا امتلكنَ في أوطانهنّ.

عام 2007، نشرت الكاتبة المسرحية النسوية إيف إنسلر مقالًا في مجلة Glamour، بدأته بقولها: «لقد عدتُ لتوّي من الجحيم»، مُستتبعة ذلك بفيض من تفاصيل رحلتها إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية، حيث قابلت «فتيات يكدنَ يَكُنَّ في عمر التاسعة اغتُصِبْنَ من قبل الميليشات العسكرية». تتناول مقالة إنسلر، بحسب عنوانها، «نساءً تُرِكْنَ للموت – والرجل الذي يحاول إنقاذهنّ»، لكنّ ذلك ليس واضحًا بشكل مباشر.

حتى وهي تُفصِّلُ في كتابها معاناة النساء الكونغوليات، تتمكن إنسلر من إبقاء الانتباه مركّزًا حول نفسها؛ فتسأل «كيف أنقُلُ هذه القصص؟»، «كيف أخبركم/ نّ…؟»، «مكثتُ لأسبوع في بانزي بينما اصطفّت النساء ليُخبرنني بقصصهنّ». وما أن انتهت من سرد قصّة فتاة تُدعى «ألفونسين»، وبدلًا من أن تُمكّنَ القارئ من تأمّل تلك القصّة، تكتُبُ: «أنظُرُ إلى جسد ألفونسين الضئيل وأتخيّل الندوب تحت ملابسها البيضاء الرثّة؛ أتخيّل التئام اللحم على بعضه، والعذاب المُضني الّذي شعرت به بعد إطلاق النار عليها. أصغي بعناية ولا أتمكّن من رصد أيّ مرارة أو رغبة في الانتقام».

ومرّة أخرى، تتمكّن من مَرْكَزَةِ السرد حول نفسها عند كتابتها عن عمليّة النواسير الجراحيّة الّتي تحتاجها العديد من النساء ضحايا الاغتصاب، فتكتب: «أجلس خلال عمليّة اعتياديّة… أنا قادرة على رؤية الناسور»، وتستمر هكذا.

يدلّل تركيزها الدائم على ما تفلعه أو تراه هي، عوضًا عمّا تنظر إليه أو تسمعه، يدلّل بقوّة على أنّ غايتها هي إظهار الدور الحاسم الّذي تؤدّيه المرأة البيضاء في حيوات تلك النساء، وكذلك على تحريض قرّاء Glamour؛ فبإمكانهم مراسلة رئيس الكونغو، أو التبرّع للمستشفى الذي يعالج ضحايا الاغتصاب، أو لمركز إعادة التأهيل حيث النساء الكونغوليّات «يتعلّمنَ كيف يصبحنَ قائدات سياسيّات»، وتلك الأفعال كلّها تمرّ عبر الموقع الإلكترونيّ الخاصّ بإنسلر.

تظهر مقالة إنسلر المنشورة في Glamour، كيف تتقاطع عقدة المُنقِذ الأبيض مع النسويّة في القرن الواحد والعشرين؛ إذ تأخذ امرأة بيضاء على عاتقها مهمّة «الحديث باسم» النساء «الأخريات» المغتصبات والمعنّفات بوحشيّة، لتُموضِعَ نفسها منقذةً لهنّ والقناة الّتي يجب أن تتدفّق عبرها عمليّة تحرّرهنّ. كما تشكّل المقالة مثالًا على كيف تتموضع محنة النساء اللّواتي يعشنَ «بعيدًا – هناك» كضدٍّ يُحكَمُ بناء عليه بنجاحات النساء في الغرب. إذ تُشجِّع إنسلر قارئاتها على هزّ رؤوسهنّ أسفًا على الظروف الّتي تعيشها النساء في الأماكن الأقلّ تحضّرًا من العالم بينما يَقُلْنَ لأنفسهنّ: «كم نحن محظوظات».

كما يُلاحَظ أنّ التعريف أو عدم التعريف بالنساء الملّونات مسألة تتبع كلّيًّا هوى النساء البيض اللّواتي يسردنَ القصّة؛ ففي الحالات الّتي فيها من الواجب ذكر أسماء النساء مثل الممرّضات أو العاملات في المجال الطبّيّ، تُسقَطُ أسماءهنّ لأنّ ذكرهنّ قد يحوّل الانتباه بعيدًا عن مركزيّة دور النساء البيض بوصفهنّ مُنقذِات؛ بينما وفي الحالات الأخرى التي تكون فيها السرّيّة مفيدة، مثل عدم تصوير الضحايا أمثال «نادين»، يُقال لنا إنّها وافقت على أن تُصوّر إن ظهرت باسمٍ مستعار.

كذلك تُظهر النشرة السنويّة الصادرة عن «مؤسّسة ميليندا وبيل غيتس» مثالًا آخر على هذه الظاهرة الممنهجة والمتعمّدة، لا سيّما عندما يتعلّق الأمر بالمشهد البصريّ لنساء بيض يتطوّعنَ لمساعدة السود والملوّنين. إذ تَضْبِطُ الصورة الأولى الظاهرة في التقرير إيقاعه؛ فتصوَّر ميليندا غيتس تنحني لتنظر في عينيّ امرأة سوداء مجهولة الاسم تضع كمّامة وتستلقي على سرير المشفى. هنا، تشكّل مجهوليّة الذات المصوَّرة نمطًا اعتياديًّا في هذا النوع من التصوير، وقد نفترض أنّ الاسم قد حُذِفَ لحماية خصوصيّة المرأة، لكنّ النمط يستمرّ في الظهور في أماكن أخرى؛ فحتّى عندما يظهر الملوّنون وهم يشغلون وظائف تقديم الرعاية الصحّيّة عوضًا عن تلقّيها، حيث ليس هناك حاجة للمجهوليّة، يظهرون بلا أسماء. إذ ليس ثمّة غير بيل وميليندا غيتس، الشخصان الأبيضان الوحيدان المعرّفان في الصور الواردة في التقرير؛ فثمّة صور زيارة عيادة «Gugulethu» الصحّيّة تظهر فيها مجموعة من الموظّفين السود والملوّنين غير المُعرَّفين، بينما يُفتَتَحُ قسم الجندر بصورة ميليندا بيل غيتس محاطة من الجانبين بامرأتين هنديّتين ملوّنتين.

يعدّ هذا النمط في التصوير الّذي يركّز على إبراز الجانب الخيّر فعّالًا جدًا حتّى استُخْدِمَ في تطبيقات المواعدة؛ إذ ثمّة موقع إلكترونيّ باسم Humanitarians of Tender، مخصّص لصور النساء البيض الشجاعات والمغامرات (والقليل من الرجال) وهنّ يوزّعنَ الأحضان على الأطفال، ويُشاركنَ في الرقصات «الأصلانيّة» التقليديّة، بحيثُ يُعاد الآن توظيف الأنماط الّتي استخدمتها إنسلر وغيتيس لحشد تأييد عامّ أو دعم ماليّ، يعاد الآن توظيفها لغاية جذب شركاء جنسيّين، وكما هو الحال دائمًا، لا تحضر الوجوه السوداء أو الملوّنة إلّا لتكون مجرّد دعائم في مشروع أبيض.

لا تتوقّف تلك العادة المتمثّلة في التركيز على المرأة البيضاء عند الحديث عن تحرّر النساء الملوّنات على كونها مجرّد أسلوب ثقافيّ ينحصر في تطبيقات المواعدة، ومجلّات الأزياء أو مجلّات المحسنين من أصحاب المليارات؛ بل هي عادة لها جذورها الجينالوجيّة؛ فـ «عقدة المخلّصة النسوية البيضاء» متجذّرة عميقًا في المعرفة والتاريخ وقد تطوّرت لتأخذ شكلها الأوّل في الحقبة الاستعماريّة.

آنذاك، كانت امتيازات الذكور، إضافة إلى الأدوار الجندريّة، قد حدّت من حرّيّات النساء البيض في أوطانهنّ بشكل كبير خلال القرن التاسع عشر، لكنّ ترحالهنّ إلى المستعمرات سَمَحَ لهنّ بإيجاد مخرج استثنائيّ؛ فقد كنّ يتمتّعن في الهند أو في نيجيريا بامتياز كبير هو امتياز البياض، بالرغم من أنّهنّ كنّ ما زلن خاضعات للرجل الأبيض، لكنّهنّ اعتُبِرْنَ متفوّقاتٍ بسبب عرقهنّ مقارنة بـ «الذوات التابعة» المستعمَرة، وقد منحتهنّ هذه الأفضليّة آليًا قوّة وحرّيّة أكبر ممّا امتلكنَ في أوطانهنّ.

تكشف تجربة بيل كيف تقاطعت تجربة الحرية للنساء البريطانيات بعيدًا عن المنزل والموقد مع شرط التفوّق الإمبريالي خارج حدود بريطانيا وأوروبا؛ فعلى النقيض من الصيرورة التاريخية البطيئة المعتادة، كانت الإمبراطورية البريطانية قد تضخّمت بوتيرة متسارعة خلال القرن التاسع عشر، جاعلة من النساء البريطانيات مواطنات الإمبراطورية. وفي وقت كانت النساء البيض ما يزلن فيه يُعتَبَرن ملكيّة قانونية لأزواجهنّ، كان صعبًا عليهنّ مقاومة فرصة تذوّق الشعور بالقوة – التي عادة ما كانت تُمنَعُ عنهنّ – الّتي تُمكِّنهنّ من إخضاع الآخرين. وذلك، كما تصف إحدى النساء، «كان مهربًا من نمط الوجود الاعتياديّ القديم الذي تحوّل بألفته وكلّيّته وأريحيته إلى نمط وجود مضجر ورتيب»2.

وللمفارقة، أو قد يكون ذلك عائدًا لوفائها لتاريخ عائلتها السياسيّ الّتي دعمتها ماليًّا، كانت غرتروود بيل نفسها معارضة لحقّ المرأة في الاقتراع؛ ففي عام 1908، شغلت منصب السكرتير الفخريّ لـ «رابطة مناهضة حقّ المرأة في الاقتراع»3، وكان من المنطقيّ أن تكون كذلك؛ ففردانيّتها الصلبة تعارضت مع أيّ جهود جمعيّة، إذ لم يكن من المنطقيّ أن تكون جميع النساء متساويات مع الرجل وقادرات على فعل ما أمكنها أن تفعله هي، فقد كان إيمانها إيمانًا باستثنائيًّتها هي فحسب.

لم تكن معارضَةُ بيل لحقّ الاقتراع مهمّة، إذ كان ثمّة العديد من النساء الأخريات اللّواتي عَمِلْنَ في قضيّة حقّ الاقتراع، وهنّ أيضًا سيستفدن من تفوّقهنّ العرقيّ خلال رعايتهنّ لأخواتهنّ الأقلّ حظًّا في جميع أنحاء الإمبراطوريّة. فإن كانت بيل وجدت في الاتّساع البريطاني الهائل الحرية وانعدام القيود الجندريّة، كذلك وجدت المناديات بحقّ الاقتراع في مجرّد وجود نساء أصلانيّات مستعمرات إمكانيّة لعرض تباين أخلاقي سياسي يمكن الاستفادة منه في نضالهنّ: إذ جادلنَ أنّ اضطهاد النساء لا تمارسه غير الثقافات اللا متحضّرة مثل تلك المُستعمَرَةُ بريطانيًا.

ترسم هارييت تايلور، في مقالها تحرير المرأة «Enfranchisement of Women» المنشور عام 1851، صورة للمرأة غير المتحرّرة في ذهن قارئاتها: المرأة «الشرقية أو الآسيوية»، الّتي احتُجِزَت في عزلةٍ ومن ثمّ أصبحت «ضئيلة العقل». لكنّ المناصِرات لحقّ الاقتراع اللاحقات ذهبنَ أبعد من ذلك، فقد ورد في كُتيّب نُشِرَ عام 1879 أنّه «إن كانت صحّة المرأة الجسديّة تتضرّر عند عزلها في مكان ضيّق، فكذلك تعاني صحّتها الذهنيّة من عزلها قانونيًّا… ليس من العدل حرمانها من حرّيّتها السياسيّة مثلما تُعزل النساء في الشرق داخل أربعة جدران»4. إضافة إلى استخدام عبارات أخرى مثل «الخضوع الذليل» و«أخواتنا المعوّقات في الشرق» في وصف النساء التعيسات اللواتي تخيّلنهنّ في حاجة ماسة إلى اهتمامهنّ ومساعدتهنّ.

هكذا ظهر خطاب ثقافيّ يسلّط الضوء على موقع النساء المستعمَرات السود والملوّنات والآسيويّات داخل العالم الاستعماريّ؛ فكانت «النساء الشرقيّات دونيّات بشكل مضاعف فقط لكونهنّ نساءً وشرقيّات»5 في نظر المجتمع الفيكتوريّ. وبالرغم من ذلك، حَرِصَت النساء البيض اللّاتي زرنَ آسيا والشرق الأوسط على زيارة النساء الشرقيّات، وسُمِّيَت تلك الزيارات بـ «بعثات الزنانة‘ لأنّ الجناح النسائيّ في بيت أيّ عائلة شرقيّة ثريّة كان يُعرَفُ بـ الزنانة».

بيل نفسها كانت قد رتّبت للعديد من «بعثات الزنانة» للقاء نساء شرقيّات شهيرات، لقاءات سجّلتها بتعاطف مزيّف في كتابها الصور الفارسيّة؛ فقد وجدت نفسها خلال زيارتها الأولى، إلى قصر السلطان نفسه، في محادثة شحيحة رغم جهود المترجمة الفرنسيّة، وقد كتبت أنّ كلّ ما بدت المضيفة قادرة على القيام به كردّ فعل على زيارتها هو أن «تضحك بعصبيّة وأن تشيح بوجهها وتدفنه في ما بدا منديل جيب»6. وبالرغم من ظهور ابنتان تتحدّثان عن دراستهما بالعربيّة والفرنسيّة، لم تَغِب الصورة الخالدة للمرأة الفارسيّة بوصفها المرأة الحمقاء الضاحكة في سرّها. ومع نهاية اللقاء، شعرت غرتروود بيل أنّ كلّ شيء، حتّى الوجبات الخفيفة الّتي قُدّمت (الليمون المثلّج) لم يكن مُرضيًا. وبسعادة امرأتين إنجليزيّتين بيضاوتين، استأذنت غرتروود وصديقتها من السيّدات الثلاث اللّاتي وقفن يحدّقن بهما تغادران من وراء الجدران القماشيّة، وكتبت بيل: «بدا لنا ونحن ننتقل على ظهر الفرس إلى منازلنا في القرية الرطبة، بدا لنا وجودهنّ داخل القصر أشبه بالوجود داخل زنزانة»، في حين «كانت الشمس…»، كما دوّنت غرتروود بسعادة، «تهبط تحت الأفق في بلاد الفرس، لتحمل ضوءها بكلّيّتها للعالم الغربيّ – لعالمنا نحن».

كانت زيارات «الزنانة» شائعة خلال القرن الثامن عشر عندما شرع المستعمِرون الأوائل، في بعض الأحيان برفقة زوجاتهم، في استكشاف «الشرق الغامض». لكنّها، وبعد توطّد الإمبراطوريّة، أخذت في الزوال إلى أن أصبحت أكثر شيوعًا بصفتها نقطة توقّف على طريق السياحة الغربيّة، إلّا أنّ إرث تلك الزيارات التطفّليّة استمرّ في الظهور على هيئة خطاب القرن التاسع عشر النسويّ الّذي مَوْضَعَ تلك النساء «الأخريات» بوصفهنّ أدنى من نظيراتهنّ الغربيّات.

معظم النساء اللاتي كتبنَ منشورات تؤيّد حقّ الاقتراع للمرأة البيضاء، ومعظم النساء اللاتي استهلكن تلك المنشورات، لم يكنّ قد زُرْنَ الشرق أبدًا، بل ربّما لم يكنّ قد قابلنَ أيًّا من نساء السرايا العثمانيّة أو الحريم اللّاتي رَغِبْنَ في عقد مقارنة معهنّ؛ أي أنّ قوّة المقارنة لم تأتِ من واقعيّة الظروف الّتي عاشتها النساء الشرقيّات، بل من المخيّلة المهيمنة عن الأبيض وغير الأبيض؛ فقد دافعت النساء البيض عن استحقاقهنّ التمتّع بحرّيّة ومكانة اجتماعيّة أكبر من نظيراتهنّ المستعمَرات على أساس إيمانهنّ بتفوّقهنّ عليهنّ، وبذلك أصبحت الـ «هُم» – النساء الشرقيّات – والـ «نحن» – النساء البيض – رافعة مُفحِمَة لا غنى عنها بالنسبة للنساء البيض في مساعيهنّ لنيل حرّيّتهنّ.

مثال ذلك مجلّة «Glamour Magazine – The Englishwoman’s Review» الّتي كانت قد أُنْشِئَت في ستّينيّات القرن التاسع عشر  لإيجاد منبرٍ لهذه الحجّة بالذّات؛ أنّ النساء البريطانيّات البيض، اللّاتي هنّ الآن سيّدات الإمبراطوريّة، يجب أن يعشنَ حياة مرئيّة، وحرّة، ومحمّلة بالمعنى السياسيّ، على النقيض من نساء الشرق اللا مرئيّات، والخاضعات، والحَبيسات. إذ كان من المستحيل، في نهاية المطاف، أن تُحَدّ حيوات النساء البريطانيّات بالقيود والعوائق الشبيهة بتلك الّتي تحدُّ حيوات النساء الأدنى في العالم اللّاتي ما يزلن لم يتحضّرن بعد7.

استمرّ النقاش لسنواتٍ محتدمًا في صفحات المجلّة حول طبيعة لا-تحضّر النساء الهنديّات، ووُظِّفَت هذه الحجّة في اتّجاهين؛ حيثُ استجْدَت من ناحية عطف وكرم المنقذين على شاكلة: «انظُروا كيف يُعامِلُ الرجال الملوّنون نساءهم بقسوة؟ لا يمكن للرجال البيض أن يكونوا بربريّين هكذا أبدًا»، ومن ناحية أخرى استجْدَت الهيمنة البيضاء بالقول: «أيًّا كان ما تحصل عليه النساء الملوّنات، فيجب أن تحصل النساء البيض على ما هو أفضل وأكثر منه بكثير».

اعتبرت كاتبات مجلّة الـ «Englishwoman’s Review»، مقالاتهنّ وخُطبهنّ وقودًا للصعود المستمرّ للنسويّة في بريطانيا، وكذلك اعتبرنَ أنفسهنّ «عاملاتٍ يصنعنَ التاريخ في قضيّة النساء»8. وقد اعتقد البعض، مثل المؤلّف بايلي برنارد، أنّ النساء الهنديّات البائسات اللّاتي يعشن وجودًا «بلا شمس أو هواء»، كنّ رغمًا عن ذلك قابلات للتعلّم وعليه فهنّ قابلات للخلاص، ولذلك السبب يتعيّن على النساء البريطانيّات داخل وخارج الهند أن «يُلقين بأنفسهنّ بكلّ ما أوتين من قوّة في العمل على تعليمهنّ وألّا يرتحنَ أبدًا حتّى ينهضنَ بأخواتهنّ إلى مستواهنّ، وآنذاك، قد تحظى نساء الهند أخيرًا بالقدرة على الحصول على مكانة مشرّفة لأنفسهنّ»9.

وبالرغم من انتقاد بعض المقالات استخدام كلمات مثل «بدائيّ» أو «غير متحضّر» في وصف الأشخاص الملوّنين والذوات المستعمَرة، إلا أنها لم تتضمّن أصوات النساء اللاتي هنَّ موضع النقاش. لقد جُرِّدت تلك النساء من سياسيّتهنّ، وكنّ مفيداتٍ فقط «عند شرحهنّ والتعديل عليهنّ واستعمالهنّ نسويًّا»10، وتمامًا مثلما فعلت إيف إنسلر ومثلها عدد لا نهائيّ من النسويّات البيض اليوم، سعت كتابة النساء البريطانيّات في هذه الصحف الاستعماريّة إلى الحديث باسم النساء اللّاتي كنّ يحاولن إنقاذهنّ، وكما كان الأمر في الماضي وفي الحاضر، كانت وما تزال فضيلة إنقاذ النساء الملوّنات داعمة لتمكين النساء البيض من الصعود مهنيًّا والعمل على تحسين سمعتهنّ وتجاوز الأعراف، دون الإشارة إلى المفارقة الساخرة الكامنة في هذه العمليّة.

وبغض النظر عن مدى صدق نقاشات المجلّة حول الارتقاء بالأخوات الملوّنات، إلّا أنّ الممارسة تقول إنّ تلك النقاشات شكّلت غراءًا موحِّدًا لمجموعة كبيرة من النساء البريطانيّات تحت مظلّة الإمبراطوريّة، نساءً آمنَّ وروّجنَ للإمبراطورية البريطانية بوصفها قوةً خيّرة. ومثلما جعلت شجاعة إنسلر المتمثّلة في ذهابها إلى الكونغو منها بطلة إيثاريّة لتكتب تقريرها، كذلك سعت النساء الإنجليزيّات اللّاتي رحلن إلى المستعمرات في القرن التاسع عشر، إلى إقناع الأخريات اللّاتي بقين في منازلهنّ أنّ الإمبراطوريّة لم تكن مجرّد مشروع الرجل البريطانيّ، بل كانت كذلك مشروعًا للنساء البريطانيّات. في هذه الإمبرياليّة «النسويّة»، كان من واجب النساء الإمبرياليّات أن يقفن جنبًا إلى جنب مع الرجال الّذين خدموا الإمبراطوريّة، وأن يحملنَ معه «عبء الرجل الأبيض»، وقد لخّصَ إعلانٌ نُشِرَ في كانون الثاني (يناير) من عام 1888 في مجلّة «Englishwoman’s Review» الأمر بالقول: «شاغرٌ للنساء في المستعمَرات»، مناشدًا القارئات للتقدّم ومساعدة المُستعمَرين، لأنّ محنتهم، خاصّة محنة النساء الهنديّات، يجب «أن تكون موضع اهتمام وقلق نسويّ خاصّ»11.

افتقرت النساء البيض اللّاتي وصلن المستعمَرات، لبناء مدارس للبنات أو لتدريب المعلّمات، إلى الكفاءة في التعامل مع الاختلافات الثقافيّة، وتجلّى ذلك في موضوع الملابس مثلًا؛ فإن كانت النسويّات الأوروبيّات منزعجاتٍ وبشدّة من إصرار النساء المسلّمات اليوم على تغطية أجسادهنّ، فإنّهن كنّ منزعجات بالقدر نفسه من عدم ارتداء النساء الهندوسيّات ما يكفي من الملابس لتغطية أجسادهنّ في الماضي.

آنيتي أكرويد، امرأة بريطانيّة شرعت في رحلة إلى البنغال لبناء مدرسة، وما ألهمها لفعل ذلك كان حادثة مطابقة تقريبًا لتلك الّتي وصفتها إنسلر بعد قرنين من الزمان كسبب وراء رحلتها إلى الكونغو. لكنّ آكرويد وجدت ثوب الساري التقليديّ رداءً فظًّا وغير لائق، لأنّه في نظرها ترك النساء يظهرن شبه عاريات، وقد اشتكت من ذلك في رسالة بعد وصولها إلى البنغال، قائلة: «يجب أن يكون هناك تغيير جذريّ في ملابسهنّ السفليّة، لأنّه من غير المعقول ظهورهنّ علنًا وهنّ يرتدين مثل هذه الملابس»12. حتّى عندما قابلت امرأة بنغاليّة ثريّة، وصفت طريقة ارتدائها بملابسها وجلستها بـ «المتوحّشة الّتي لم تسمع من قبل عن الكرامة أو الاحشتام».

سرعان ما استخدمت النساء البيض – اللّاتي كنّ ظاهريًا هناك لمساعدة أَخواتهنّ المُستعمَرات على بلوغ إمكانيّاتهنّ – الملابس أو عادات الجلوس كبيّنات على أنّ النساء الملوّنات كنّ محدوداتٍ لبدائيّة متجذّرة فيهنّ، ولذلك كنّ في أمسّ الحاجة للمساعدة البيضاء. في حين كانت النساء الهنديّات بحلول منتصف القرن التاسع عشر، أي قبل وصول غرتروود بيل إلى المستعمَرات بحوالي خمسين عامًا، قد أنشأنَ منظّمات ذات توجّه إصلاحيّ مخصّصة للنساء. وبحلول سبعينيّات القرن التاسع عشر، كانت النساء الهنديّات ينشرن مجلّاتهنّ الخاصّة الّتي تعاملت مع قضايا النساء بحماس شديدٍ إلى درجة ظهور «صحافة نسائية» في مقاطعة ماهاراشترا شماليّ الهند13.

كذلك كانت النساء الهنديات في سبعينيات القرن التاسع عشر، أمثال بانديتا راماباي وسونديرباي باورا وكروباباي ساتيانادان، يتُرْجِمن نصوصًا أدبية من الإنكليزية ولغات أوروبية أخرى إلى لغاتهنّ المحلّيّة، إضافة إلى نشاطهنّ في نقد أدوارهنّ المتدنية داخل المجتمع14. وبحلول عام 1882، ليس بعد وقتٍ طويل من رحلة آكرويد المشؤومة – الّتي سرعان ما تخلّت عن بناء المدرسة وفضّلت الزواج على ذلك – كان ثمّة 2700 مؤسّسة تعليميّة للبنات في الهند، بمجموع 127 ألف طالبة وخمسة عشرة كلّيّة تدريبيّة للمعلّمات15. بعد ذلك بعامين، عام 1886، أسّست سوافرناكوماري ديفي «منظّمة السيّدات»، وتبعتها بانديتا راماباي عام 1892 بتأسيس «شاردا شاردا» الّتي اختصّت بتعليم وتشغيل النساء16. بعد عقد على ذلك، عقد النادي الاجتماعيّ والأدبيّ للسيّدات الهندوسيّات لقاءه الأوّل بحضور الأخصّائية الاجتماعية راماباي راناد، وبحلول تسعينيات القرن التاسع عشر، كانت أعداد النساء الهنديات اللاتي يتخرّجنَ من الكلّيات والجامعات الهندية في ازديادٍ نتيجة الزيادة في الفرص التعليمية.

وفي عام 1905، وبينما كانت غرتروود بيل تكتشف نفسها وتفوّقها على النساء الشرقيّات السخيفات والمنعزلات، كتبت البيجوم رقيّة سخوات حسين، زوجة إداريّ بنغاليّ، أحد النصوص النسويّة الرائدة في الأدب الهنديّ باللغة الإنكليزية وهو «حلم سلطانة»؛ فيه تنتقل بطلة الرواية إلى عالم عجيب ليس فيه رجال، حيث النساء وحدهنّ يتحكّمن بكل شيء. وتعكس هذه القصّة المُتخيّلة استراتيجية الفصل التي اتبّعتها النساء الهنديات داخل منظماتهن، حيث لم يُسمح لأيّ من الرجال باستلام أيّ مناصب عليا17.

كانت مُخرَجات اللقاءات الغريبة التي جمعت بين نسويات بيض مع نساء ملونات شبه مأساوية؛ ففي واحدة من هذه المناسبات الّتي جمعت الكاتبة النسوية المصرية هدى الشعراوي بامرأة فرنسية اسمها مُلِي مارغريت كليمينت، أرادت كليمينت وصديقاتها إلقاء محاضرة على النساء المصريّات الأرستقراطيات في القاهرة تتناول المواقف الغربية والشرقية من الحجاب، وللتأكّد من حضور هاته النساء الأرستقراطيات، طلبت كليمينت من الشعراوي أن تجد شخصية هامّة لرعاية الحدث، وتمكّنت الشعراوي من إقناع الأميرة عين الحياة أحمد بالحضور، لكن، وفي اليوم المنشود، تأخّرت الأميرة عن الحضور فقرّرت النساء البيض عدم انتظار ضيفة الشرف والبدء في الموعد، ليضعن بذلك عادة الالتزام بالموعد البريطانيّة فوق قيم الضيافة الشرقيّة، إضافة إلى تأكيدهنّ عبر ذلك الفعل على حقّ النساء البيض بالبدء متى يحلو لهنّ.

لكنّ وصول الأميرة برفقة حاشيتها الملكيّة تسبّب في إحداث ضجّة شوّشت على محاضرة كليمينت وتسبّبت بإغضاب النساء الغربيات، اللّاتي شعرن أنّ كلمات إحداهنّ لا ينبغي مقاطعتها بسبب وصول إحدى شخصيّات الملكية المصرية، وبكلماتٍ أخرى، شعرنَ أنّ مفاهيم الإتيكيت البيضاء يجب أن تكون في موضع أعلى مرتبة من إتيكيت النساء المصريات. تبع ذلك الموقف هجومٌ على الشعراوي والنساء المصريات عمومًا من النسويات البيض، من مستهلكات المجلّات والدوريات التي صنّفت نساء المستعمرات في مكانة أدنى من نظيراتهنّ البيض، بسبب جهلهنّ بآداب السلوك الملائمة، وبدورها انزعجت الشعراوي من ذاك التعالي الثقافيّ تجاه النساء المصريّات الحاضرات وكذلك تجاه شخصها18.

إضافة إلى ذلك، كان ثمّة عنصر من عناصر الهشاشة البيضاء في ذلك الحدث؛ إذ لم تتحمّل النساء البيض أن يُطلَبَ منهنّ التوقّف حتى تجلس الضيفة الملكيّة، دون أن يتّخذن موقفًا دفاعيًّا بعدما أُخْبِرنَ أنّهنّ تصرّفن بقلّة احترام. كذلك ثمّة الإصرار على مركزيّة البياض: فالسخط الشخصيّ من التأخّر قد يبدو معقولًا، لكنّ الالتزام بالموعد بصفته عادة، لا يحمل، مثله مثل بقيّة العادات، قيمة عالميّة مطلقة؛ فأهمّيّة الالتزام بالموعد في تلك الحالة يحمل في رمزيّته الثقافيّة تأكيدًا على تفوّق الطريقة البيضاء في فعل الأشياء باعتبارها الطريقة الصحيحة والوحيدة.

في الحالات الّتي تتضمّن حضور مجموعات مختلفة ثقافيًّا في المكان نفسه، يبرز سؤال أيّ من المجموعات يجب احترام قواعدها بحيث توضع كمعيار ينطبق على الجميع، وذلك ما نعنيه بـ «مَرْكَزيّة البياض»؛ ومثل هذه النزعات الّتي قد تبدو تافهة، تشير في الواقع إلى نزعات أشدّ عمقًا وتكشف عن نوايا مجموعة ما ورغبتها في وضع قواعد للمجموعات الأخرى.

ففي الثقافات غير الغربيّة، غالبًا ما يتأخّر الضيوف المهمّون في حين ينتظرهم الآخرون كعلامة على الاحترام، وتلك عادة من الآداب السلوكيّة البديلة لتلك الغربيّة، وليست بالضرورة في طبيعتها أكثر صوابًا، لكن، بالنسبة للنساء البيض اللّاتي كنّ في اللقاء، لم تكن الدقّة في المواعيد – القيمة الّتي تقدّرها الثقافة الغربيّة البيضاء، والّتي تشكّل جزءًا جوهريًّا من مجمل القيم البروتستانتيّة والرأسماليّة الإنتاجيّة – لم تكن الدقّة مجرّد قاعدة تخصّ البيض والغربيّين فقط؛ بل كانت قيمة يجب فرضها على أيّ شخص آخر أيضًا.

تُظْهِرُ ردّة فعل المرأة البريطانية الدفاعيّة وغير المقبولة عندما قاطعتها الشعراوي، تظهر عَرَضًا يعبّر عن الهشاشة البيضاء؛ إذ تُظهِرُ ردّة الفعل تلك الانزعاج الأبيض من عدم امتنان الملوّنين – الّذين يُصنّفون في مرتبة بشريّة أدنى أو بوصفهم ضعفاء بحاجة إلى المساعدة، ناهيك عن حالتهم المادية وتجربتهم – لمنقذيهم البيض، أو عندما يكشفون بوضوح مطلق أو ضمنيًّا عن نقائص البيض، أو عندما يكشفون عن حقيقة الامتيازات العرقيّة البيضاء. آنذاك يظهر هذا الانزعاج الداخليّ بطرق مختلفة منها الغضب، أو اللجوء إلى موقع الضحية، أو رفض التعاون أو التواصل.

لا يظهر تقاطع العرق والنسويّة في أيّ مكانٍ بشكل أكثر تكاملًا ممّا يظهر في النضال من أجل حقّ الاقتراع للنساء، كما يمكن القول إنّ المطالَبات بحقّ الاقتراع للنساء لم تؤخذ على محمل الجدّ إلّا حين أصبحت جزءًا من، أو وُظِّفَتْ ضدّ الاحتمالات المقلقة المتمثّلة في اضطرار الغرب لمنح المواطنة لرجال المستعمَرات من السود والملوّنين والآسيويّين، الّذين كان بعضهم في حالة الولايات المتّحدة الأميركيّة مستعبَدين.

معظم النساء البريطانيّات المناديات بحقّ الاقتراع كنّ حاسماتٍ في ربط حقّهنّ الاقتراعيّ بهويّتهنّ العرقيّة بوصفهنّ نساءً أنجلو–ساكسون، وتظهر العديد من الوثائق الأرشيفيّة الّتي تعود إلى ذلك العصر هذه الحقيقة القبيحة؛ فتبدأ شارلوت كارميكال ستوبس، المؤيّدة لحقّ الاقتراع للنساء، تبدأ بيانها عن «الامتياز التاريخيّ» للمرأة البريطانية بالتشديد على «السمة العرقيّة لأسلافنا»19. كذلك يَظْهَرُ هذا التوجّه بوضوح كبير لدى هيلين بلاكبيرن، الّتي نشرت تاريخها الخاصّ بالحركة النسويّة المؤيّدة لحقّ المرأة في الاقتراع، والّذي فيه تنسب الفضل في المساواة المبكّرة بين الجنسين في بريطانيا إلى «التفوّق الأنجلو – ساكسونيّ على بقيّة الأعراق الهندو – جرمانيّة». ومثل بقيّة المناديات بحقّ الاقتراع، رأت ميليسنت فاوست أنّ نشأة الحكومة التمثيليّة كانت في بريطانيا، وتساءلت «لماذا لا تستمرّ بريطانيا في ريادتها كما فعلت من قبل؟»20.

مع بداية القرن العشرين، واقتراب النساء البريطانيا من نيل حقّ الاقتراع، أرَدْنَ من أخواتهنّ الأدنى منهنّ الانخراط في نضال موازٍ لنضالهنّ لنيل حق الاقتراع؛ لكن السياسات النسوية في المستعمَرات آنذاك، خاصة في الهند، كانت تركّز جهودها على انتزاع الحرية من الحكم الاستعماريّ. حيث تبنّت النسويات الهنديات، مثل الشاعرة ساروجيني نايدو، إضافة إلى أخريات، شعار مهاتما غاندي الشهير: «لن تكون الهند حتّى تكون نسائها حرّات، ولن يحصلن على حرّيّتهنّ دون أن تكون الهند حرّة». كانت نايدو قائدة في «حركة اترُكوا الهند» الّتي طالبت بمغادرة البريطانيّين، أو أن «يتركوا» وطنها، واشتركت برفقة المئات من النساء الأخريّات اللّاتي كنّ أعضاء في الحركة في العصيان المدني واعتُقِلْنَ وسُجنَّ في السجون البريطانية21.

كان ذلك يحدث في الوقت الذي رفضت فيه الناشطات البريطانيات دعم النضال ضد الهيمنة الاستعمارية في الخارج، وبالرغم من أنهنَّ كُنّ يكافحن هيمنة الرجال الذين ادّعوا بشكل أساسي أن النساء لسنَ قادرات على حكم أنفسهنّ، إلا أنهنَّ تَبِعْنَ الرجال في ادّعائهم أن الهنود كانوا غير قادرين على حكم أنفسهم بأنفسهم أيضًا. كُنَّ يُرِدْنَ من حركة النساء الهندية المنادية بحقّ التصويت أن تكون نسخة مصغّرة عن نضالهنّ، ورأين في الداعمات لاستقلال الهند خائناتٍ للقضية النسوية.

وفي حين رفضت النساء البريطانيات دعم الهنديات في نضالهنّ السياسي لأجل الحكم الذاتي، إلّا أنهنَّ أصررنَ على أنهنّ كنّ حليفاتٍ في المشروع الرامي إلى منح النساء حقّ الاقتراع في دولة لم يكن فيها أحد سواء كان رجلًا أم امرأة حرًا. هنا، من الممكن استعادة كلمات دانفاتي راما راو، في احتجاجها على مؤتمر خاص بالنساء البريطانيات: «لقد عارضت حقّ النساء البريطانيات في عقد مؤتمر يتمحور حول الشرور الاجتماعية الهندية في لندن، ذلك أنّ جميع الحاضرات كنّ من البريطانيات وكثيرات منهنّ لم يزرن الهند من قبل»، وأكملت: «نحن النسويات الهنديات كنّا أخذنا المسؤوليّة على عاتقنا، وكنّا متأكّدات من أنّنا سنكون أكثر كفاءة في مسؤولياتنا من أيّ امرأة من الخارج، خاصة الجاهلات بثقافتنا»22.

ولاعتقادهنّ أنّ النسويّات الهنديّات لم يكنّ مستعدّات للنضال من أجل حقّ المرأة في الاقتراع، قرّرت الناشطات البيض أخذ تلك المهمّة على عاتقهنّ، لكن ليس مهمّة النضال من أجل حريتهنّ من الهيمنة الاستعمارية. وفي عام 1917، تأسَّست «رابطة النساء الهنديّات» جنوب الهند، لتركّز جهودها على نيل حقّ الاقتراع للنساء الهنديّات، وكانت معظم المؤسِّسات من النساء البيض، حتّى المتصوّفة آني بيسانت.

ومنذ لحظة إنشاء المنظّمة الأولى، بدأت قيادة اللجنة في حشد العديد من أعضاء البرلمان البريطاني، ومن بينهم عضو البرلمان اليهوديّ المتطرّف إدوين مونتاغو، الّذي أَمِلْنَ في دعمه لمقترح مشروعهنّ الرامي لمنح حقّ الاقتراع للنساء الهنديّات. وفي عام 1918، قُدِّمَ المقترح لمنح النساء الهنديّات حقّ الاقتراع أمام مؤتمر دلهي، ومُرِّرَ المقترح بدعم من ميليسانت فاوست الّتي كانت أصبحت سيّدة بريطانيّة آنذاك.

لكن، لم تتمكّن النساء البيض في النهاية من نيل حقّ الاقتراع للنساء الملوّنات من الرجل الأبيض. وفي عام 1918، عَقَدَ نائب الملك لورد تشيلمسفورد، برفقة إدوين مونتاغو، اجتماع لجنة ساوثبورو الخاصة بحق الاقتراع، حيث قُوبِلَت العديد من النساء الهنديات لبحث قابلية منحهنّ حق الاقتراع. لكن، وفي عام 1919، أعلنت اللجنة الّتي لم تقابل إلّا نساء مقاطعتي البنغال والبنجاب، أنّها لم تجد تأييدًا في أوساط النساء الهنديات لمنحهنّ حقّ الاقتراع. وكان السبب وراء ذلك واضحًا؛ فقد أرادت النساء الهنديّات الحقّ في الاقتراع، لكنّهنّ أردنَه في دولة حرّة من الهيمنة الاستعمارية، فما الجدوى من التصويت في دولة مُستعبَدَة؟ كانت النساء الهنديات على يقين من أنّ حقهنّ في الاقتراع سيأتي مع تحقيق الانتصار ونيل الاستقلال، مثلما وَعَد «حزب المؤتمر» عام 1931، بأنّ جميع النساء سيحصلنَ على حقّهنّ في الاقتراع ما أن يتمكّن الحزب من السلطة23، وما أن غادر البريطانيّون الهند أخيرًا عام 1947، كلا الدولتين الّلتين نشأتا عَقِبَ الخروج البريطاني، ضمَّنتا حق الاقتراع للنساء في دستوريهما.