آراء الجرماني – الجديد | عندما ظهرت صور “قيصر” للعامة أخذ السوريون يبحثون عن أقاربهم بينها، ليصطدموا بصورة امرأة دون حجاب، وليتبين لاحقا أنها صورة الناشطة المعتقلة “رحاب علاوي”، طالبة الهندسة المعمارية ذات الخمسة والعشرين ربيعاً، التي تم اعتقالها في كانون الثاني 2013 بسبب نشاطها المدني في الإغاثة واقتيادها إلى الفرع 293 ومن ثم إيداعها في سرية الإيداع بالفرع 215.

في الثامن عشر من آذار 2015 نشر مسؤول عن صفحة شبكة الثورة السورية في فيسبوك صورة “رحاب علاوي” [1] تلك وعلى جبهتها رقمها في الزنزانة بينما آثار التعذيب تظهر على وجهها. تم تداول المنشور بشكل واسع وصل إلى 827 مشاركة وأكثر من ألف تعليق وأكثر من أربعة آلاف تفاعل. معظم التعليقات انقسمت بين أولئك الذين أظهروا رفضا لوضع صورتها وكشف وجهها وشعرها والمطالبين بإزالة صورتها، وبين أولئك المستنكرين رد فعل هؤلاء. (تم توثيق المنشور بتاريخ 16-07-2017).

الحجاب السيء والحجاب الجيد

الحجاب

استخدمت السلطات الإيرانية مصطلح “الحجاب السيء” لاعتقال أيّ امرأة تظهر في المجال العام على هيئة لا تتناسب مع ما حددته السلطة الإيرانية في ما يخص مظهر المرأة. وهذا يعني أن النساء الإيرانيات المحجبات هن أيضاً مهددات. مهسا أميني الفتاة ذات الاثنين والعشرين ربيعاً ماتت بتهمة “الحجاب السيء”، حجابها لم يتطابق مع مواصفات السلطة، هكذا بكل بساطة، ألقي عليها القبض في محطة القطار من قبل الشرطة وتم ضربها داخل سيارتهم بشهود عيان، لتلقى حتفها في مشفى “قصري” في طهران.

لذا فالثورة التي تملأ الشوارع حاليا ليست احتجاجاً ضد الحجاب بل احتجاجاً على فرضِ السلطة محددات مظهر المرأة، محدداتٌ تمسّ كيانَها، وتجعلها إحدى ملكيات وأدوات السلطة في التضييق على المواطن الإيراني بشكل عام. فكم رجلاً إيرانياً يخاف أن يُزجَّ به وعائلتَه في حادثة تعنيفٍ وقتلٍ كتلك التي نابت مهسا وعائلتها، وما تلاها من أحداث واستهداف للنساء اللواتي خرجن مستنكرات مقتل مهسا؟

محددات الطاعة التي أطلقتها السلطة الإيرانية، من خلال مصطلحي: “الحجاب الجيد”؛ الشادور، أي الغطاء الأسود الذي ينزل من الرأس ليغطي كافة الجسد، و”الحجاب السيء”؛ أي كل ما خالف الحجاب الجيد، إنما جعل من حجاب رأس المرأة حجاباً لكمِّ الأفواه، ومنهجَ تأديبٍ لكلٍّ من الرجل والمرأة الإيرانيين على حدّ سواء، المنهج ذاته الذي اتبعته أجهزة المخابرات السورية حين بدأت الاحتجاجات عام 2011، حيث أن اعتقالَ النساء المتظاهرات، وتعذيبهن في السجون وتكريس الاغتصاب وهتك جسد المرأة، بات طريقةً لكمّ أفواه السوريين، رجالاً ونساء على حد سواء.

حجاب مهسا أميني في سوريا

مهسا

إن سعي النظام السوري لترسيخ مفهوم ردع الشارع السوري من خلال هتك حرمة أجساد النساء المعتقلات بعد أحداث 2011، أخذ بالانزياح تدريجياً، من كبح النساء ومنعهن من التظاهر خوفاً عليهن من الاعتقال إلى الخوف عليهن من الظهور. عزز ذلك أيضاً ما شهدته هذه المرحلة من حالات خطف للطفلات والنساء، وإزعاجهن على حواجز النظام وحواجز الجماعات المسلحة المعارضة، وهو ما هيأ لظهور تيار: إخفاء المرأة، تيار إخفاء المرأة ليس في الأرض فقط بل في السماء أيضاً، فبات انتشار الحجاب في سوريا بعد أحداث الثورة أكثر شيوعاً، ونقاش ضرورته وواجب ارتدائه أكثر حضوراً في الحياة الواقعية والافتراضية على حد سواء.

في بحث قمت به مع جامعة بروكسل الحرة رصدتُ أثناءَه وضع المرأة السورية على صفحات السوشيال ميديا، ومن بين ما تم رصده حجم انتشار أفكار وجوب ارتداء الحجاب وتكفير من لا ترتديه، لدرجة أن المرأة التي اعتُقلت وماتت أثناء الاعتقال دون حجاب يمكن أن يشك بأمر كونها شهيدة في المعتقل أم لا، لمجرد أنها ماتت تحت التعذيب سافرة!

خصوصيتا المكان/السجن وظرف المرأة/الاعتقال في حالة “رحاب علاوي” لم تغفرا لها حكم المعلقين على منشور استشهادها وظهورها سافرة في صور قيصر. مثل ما وجدناه من رد فعل السلطات الإيرانية على حجاب مهسا أميني “السيء” وإقصاء خصوصية كونها فتاة كردية، من فئة مجتمعية لا تنتمي للشادور، بل تنتمي لثقافة اللون وهوية النيروز اللونية. في قراءة تاريخية للباس المرأة الفارسية والإيرانية سنجد أن هذا اللباس ليس إلا لباس السلطة، فكل منطقة في إيران لها محدّداتها التقليدية في الملبس والمشرب والمأكل والموسيقى والنسيج والصناعات اليدوية.. الخ! مما يجعل عصف السلطة الإيرانية بالتنوع وقتل المختلف، ليس إلا مفردةً قاتمةً من مفردات التطرفِ وثقافةِ اللونِ الواحد، الثقافةُ التي لم تكترث بالآية القرآنية: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٍۢ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْ ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَىٰكُمْ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” (الحجرات 13).

تؤكد إحدى المعلقات على منشور “رحاب علاوي” بأنها على الرغم من أنها “مسلمة” إلا أنها لا تشبه مقولات المعلقين بضرورة حذف صورة الشهيدة علاوي، في حين تؤكد أخرى معلقةً أن “رحاب علاوي” قديسة بشعرها وجسدها، وأن العار إنما هو بتجاهل قداسة تضحياتها واعتقالها من أجل الثورة السورية والذهاب إلى الحديث عن شعرها. الشعر الذي قصّته نساء إيران في المحافل العامة والخاصة وعلى منصات التواصل الاجتماعي، وهو نفسه الشعر الذي يغطي وجه خامنئي، بات قصّه إهانة للسلطة الإيرانية، ومظهر تمرد عام! معلق آخر يستنكر أن تصف امرأة مسلمة “رحاب علاوي” بالقديسة، مفترضاً في عقله الباطني أن فتاة سافرة ميتة تحت التعذيب وصف لا يصدر من مسلم، وصف قديسة ذاك أربك منظومته الفردية الرافضة للتنوع؛ حيث أن جميع المسلمين يجب أن يؤمنوا بما يؤمن به هو كفرد، إنه المنطق ذاته الذي تؤسس السلطة الإيرانية عليه منظومة عقابها وقتلها لـ”مهسا” وغيرها من نساء إيران، فلا يهم التنوع التاريخي والإثنوغرافي للبشر والأمكنة، ولا يهم تأكيد القرآن على أهمية التنوع في الكثير من المواضع، كل ذلك يقذف به عرض الحائط من أجل بناء محدداتِ “الحجاب الجيد”، “الحجاب السيء”، “السافرة” تبعاً لمصلحة السلطة/الفرد المتطرف.