سوزدار محمد(برنامج تدريب مراس) –سوريا على طول|
٢٦ أكتوبر ٢٠٢٣

في النصف الأول من عام 2023، وقعت 25 حادثة قتل بحق نساء في شمال شرق سوريا، بحسب أرقام منسقية المرأة. لا يكشف هذا الرقم عن العدد الحقيقي للضحايا من النساء، نظراً لتستر بعض العائلات على الجرائم خوفاً من “العار”.

الحسكة- في مسرح الجريمة، التي وقعت بذريعة “الشرف وغسل العار” في حي العزيزية بمدينة الحسكة، شمال شرق سوريا، كانت نجاح مصطفى، 55 عاماً، والدة الضحية، في المطبخ مع زوجة ابنها “القاتل”، وزوجها ذياب النزال، 65 عاماً، الذي كان هادئاً أثناء سرد تفاصيل الفاجعة لـ”سوريا على طول”، على عكس زوجته، التي كستها ملامح الحزن.

في العاشر من آب/ أغسطس الماضي، عند الخامسة والنصف عصراً، كانت نغم ذياب النزال، 28 عاماً، تعدّ الطعام لوالدها المسترخي في فناء المنزل، عندما أقدم شقيقها سالم، 40 عاماً، على قتلها في المطبخ، و”لاذ بالفرار إلى العراق”، بحسب والده.

قال ذياب، والد الجاني، أن ابنه “لم يقصد قتل شقيقته، وإنما حدث ذلك في لحظة سُكر، بعد أن أفرط في شرب الكحول” في ذاك اليوم. تتناقض روايته مع رواية زوجته، التي لم تكن حاضرة لحظة وقوع الجريمة، إنما كانت تتلقى العلاج في دمشق من جلطة دماغية أصابتها سابقاً.

قالت الأم أن ابنها قتل شقيقته بعد أن سمع الجيران يصفونها بـ”الوسخة” ويتهمونها بـ”تعاطي المخدرات”، مؤكدة أن الجيران والأقارب وصفوا ابنتها بصفات سيئة “وطلبوا منا أن نقتلها”، لذلك “قطع ابني عاره وقتل أخته”، وأضافت بأسى: “ارتاحت ابنتي من كلام الناس، أحسن لها أنا ماتت”.

في النصف الأول من عام 2023، وقعت 25 حادثة قتل بحق نساء في شمال شرق سوريا، منها جرائم قتل بذريعة الشرف، بحسب أرقام صادرة عن منسقية المرأة في الإدارة الذاتية (تجمع للنساء العاملات في الإدارة الذاتية ومنظماتها ومؤسساتها النسوية). لا يكشف هذا الرقم عن العدد الحقيقي للضحايا من النساء، بحسب عدد من المصادر التي تحدثت لـ”سوريا على طول”، نظراً لتستر بعض العائلات على الجرائم خوفاً من “العار”.

جرائم مستمرة

بعد النصف الأول من عام 2023، رصدت “سوريا على طول” مقتل خمس نسوة في شمال شرق سوريا، من بينها حادثة مقتل نغم.

في الثالث من أيلول/ سبتمبر الماضي، فقدت فتاة تبلغ من العمر 18 عاماً حياتها في مخيم سري كانيه بريف الحسكة، و”يشير التقرير الأولي للطبيب الشرعي على أنها حالة قتل، لا تزال التحقيقات مستمرة في ملابساتها”، كما أوضح ديوان العدالة الاجتماعية في الحسكة لـ”سوريا على طول”.

وفي آب/ أغسطس، قبل أيام من مقتل نغم ذياب، عثرت قوى الأمن الداخلي (الأسايش) على جثة هبة محمود الخلف، 32 عاماً، مقتولة في منزلها بمدينة الحسكة “على يد زوجها”، كما أفاد والدها لـ”سوريا على طول”.

وفي 12 تموز/ يوليو، قتلت شقيقتان، تبلغان من العمر 16 و18 عاماً، في بلدة القحطانية (تربه سبيه) بريف القامشلي، “على يد زوجة والدهما”، كما قال مصدر مقرب من العائلة لـ”سوريا على طول”، نافياً رواية المتهمة بأن الضحيتان تعرضتا لصعقة ماس كهربائي.

تتفق رواية المصدر المقرب من العائلة مع معلومات أدلت بها منظمة سارا، منظمة نسائية اجتماعية مدنية تناهض العنف والتمييز ضد المرأة بكافة أشكاله، التي أوضحت لـ”سوريا على طول” أن “تقرير الطب الشرعي أكد مقتل الشقيقتين خنقاً، والجريمة تمت بعلم الأب وزوجته وشقيقه، وجميعهم موقوفين على ذمة التحقيق”.

تكرار الجرائم بحق النساء في شمال شرق سوريا، يدفع إلى التساؤل حول إمكانية حماية الضحايا المحتملين قبل فوات الأوان، وما إذا كان يمكن للإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا والمنظمات المعنية بشؤون المرأة أن تلعب دوراً للحد من هذه الجرائم.

“لا يجوز قتل النساء تحت أي ظرف، ومهما كان ذنبهن”، قال والد هبة، محمود الخلف، لـ”سوريا على طول”، مترقباً “إصدار محكمة الحسكة أشد العقوبات بحق قاتل ابنتي”.

في محله الصغير، الخاص ببيع المواد الغذائية، سرد الخلف، في أيلول/ سبتمبر، قصة مقتل ابنته، التي انقطعت أخبارها لعدة أيام، إلى أن “أعلموني الجيران بصدور رائحة كريهة من منزلها، فاستدعيت قوى الأمن الداخلي لفتح المنزل، وعندما فُتح الباب وجدتها ملفوفة بسجادة سميكة”.

كشف تقرير الطب الشرعي أن “ابنتي قتلت على يد زوجها، الذي ضربها بأداة ثقيلة على رأسها، ولاذ بالفرار مع طفليه، لكن قوى الأمن الداخلي تمكنت من القبض عليه على حاجز الطبقة”، بحسب والد هبة، مشيراً إلى أن زوج ابنته “كان ينوي الهروب إلى منطقة السفيرة بريف حلب الخاضعة لسيطرة قوات النظام”.

موقف القضاء

منذ مطلع العام الحالي، صدر الحكم المؤبد بحق شخصين بتهمة القتل العمد لنساء في شمال شرق سوريا، وفقاً لديوان العدالة الاجتماعية في الحسكة، وما تزال الجرائم الأخرى منظورة في المحاكم، ولم تصدر أحكامها حتى الآن.

حاولت “سوريا على طول” بالتعاون مع منظمة “سارا” التقصي حول مصير باقي القضايا الخاصة بقتل النساء، لكنهما لم يتمكنا من الحصول على مزيد من التفاصيل، نظراً لخصوصية المحاكمات، لكن “قد يستغرق إصدار الحكم في بعضها سنوات، إذ إن هناك بعض جرائم قتل طالت نساء منذ سنوات ولم يصدر بها أحكام حتى الآن”، بحسب ديوان العدالة الاجتماعية في الحسكة، وهو ما أكدته منظمة “سارا” أيضاً المعنية بهذا الملف.

لكن بالمجمل، “يتفاوت الحكم على مرتكبي جرائم القتل من عشر سنوات إلى المؤبد، بحسب ما إذا كانت الجريمة عن سابق إصرار وترصد أو من دون قصد”، كما قال لـ”سوريا على طول”، المحامي ولات مسلم، الذي يعمل لدى النيابة العامة في الحسكة.

وتنص المادة 213 من قانون العقوبات، الصادر عن الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا، عام 2018، والمعدل عام 2023، على أنه “يعاقب بالسجن المؤبد المشدد كل من قتل إنساناً قصداً في إحدى الحالات الآتية: إذا كان القتل مع سبق الإصرار والترصد (عمداً)، إذا وقع القتل على أحد أصول الجاني أو فروعه أو فيما بين الأزواج والأخوة، إذا كان القتل مقترناً أو مرتبطاً بجناية أو جنحة أخرى، إذا أقدم الجاني على أعمال  التعذيب أو الشراسة بحق الأشخاص”، فيما تخفض العقوبة إلى خمسة عشر سنة “عند إسقاط الحق الشخصي”.

فيما تنص المادة 214 من القانون ذاته على أنه “يعاقب بالسجن من عشر سنوات إلى عشرين سنة من قتل انساناً قصداً وتشدد العقوبة إلى السجن المؤبد إذا ارتكب القتل لسبب سافل أو تمهيداً لجنحة أو تسهيلاً أو تنفيذاً لها أو تسهيلاً لفرار المحرضين على تلك الجنحة أو فاعليها أو المتدخلين فيها للحيلولة بينهم وبين العقاب، أو للحصول على المنفعة الناتجة عن الجرم، أو إذا ارتكبت بحق العامل العام في أثناء ممارسته وظيفته أو بمعرض ممارسته لها، وأيضاً على حدث دون الخامسة عشر من عمره، وعلى شخصين أو أكثر، وتخفض عقوبة السجن المؤبد إلى السجن عشر سنوات وعقوبة السجن المؤقت إلى نصفها عند إسقاط الحق الشخصي”.

أزمة عادات أم قانون؟

في عام 2022، وثقت منظمة “سارا” 38 جريمة قتل بحق نساء في شمال شرق سوريا، كما قالت آرزو تمو، الناطقة باسم المنظمة لـ”سوريا على طول”، متوقعة زيادة أعداد الضحايا من النساء في العام الحالي عما تم توثيقه العام الماضي.

وسجلت منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” بالتعاون مع منظمتي “مساواة” و”سارا” ما لا يقل عن 185 جريمة قتل راح ضحيتها نساء وفتيات بذريعة “الدفاع عن الشرف”، في الفترة بين مطلع 2019 وتشرين الثاني/ نوفمبر 2022، إضافة إلى تسجيل “مقتل ما لا يقل عن 20 ضحية أخرى نتيجة العنف المنزلي”.

ورغم أن الإدارة الذاتية تصنف “جرائم الشرف” على أنها جرائم مكتملة الأركان، ويعاقب مرتكبها بالعقوبات المنصوص عليها في قانون العقوبات كجريمة قتل عمد، وإلغاء أية أعذار قانونية لارتكاب هذه الجريمة، إلا أن حدوث مثل تلك الجرائم مستمر في شمال شرق سوريا.

أرجعت تمو سبب وقوع هذه الجرائم إلى “العادات والتقاليد، والفكر العشائري الذي يحكم المنطقة، واعتبار النساء شرف العائلة في منطقة تحكمها العقلية الذكورية”، ناهيك عن أن “إدمان المخدرات من أحد الأسباب الرئيسية لوقوع مثل تلك الجرائم”.

تعليقاً على ذلك، قالت الصحفية والناشطة الحقوقية، أفين يوسف، أن “سن القوانين وحده لا يكفي”، مستشهدة بوجود قوانين، ومع ذلك “لم تحدّ أو تمنع قتل النساء حتى الآن”، لأن “المجتمعات والأرياف ذات طابع عشائري، وما تزال تتمسك بالعادات والتقاليد، التي تعتبر المرأة أدنى درجة من الرجل، بينما الأخير تتوفر له دوافع الاستعباد والاضطهاد”، كما أشارت في حديثها لـ”سوريا على طول”.

واتفقت يوسف مع الصحفي والناشط الحقوقي، جانو شاكر، الذي قال لـ”سوريا على طول” بأن “مثل هذه الجرائم، يعود في الأساس لاستغلال بعض النصوص الدينية وتجييرها بهدف إقصاء المرأة عن ممارسة دورها الطبيعي في المجتمع، حتى أصبحت مع مرور الزمن مقبولة في العرف الاجتماعي”.

ناهيك عن أن بعض الجرائم المقبولة عرفياً “كانت تجد لها مبرراً قانونياً حتى عام 2020، حيث كان يتم تخفيف حكم الجاني في الجرائم بذريعة الشرف”، بحسب شاكر، معتبراً أن “وجود قوانين في شمال وشرق سوريا، تجرم بشكل لا لبس فيه هذه الظاهرة، هو تطور مهم في سياق إنصاف المرأة ومساواتها مع الرجل”.

ومع ذلك، “وجود القوانين الرادعة شرط غير كافي، خاصة أننا مجتمع يمر بحالة حرب، وغالباً ما تتسم القوانين بالتفاوت والانتقائية في التطبيق، خاصة في شمال وشرق سوريا”، بحسب شاكر.

وخلص تقرير “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” إلى أن “الفلتان الأمني وغياب سيادة القانون وانتشار السلاح، بالإضافة إلى انتشار ثقافة العنف ضد النساء والتطبيع معها، كلها أسباب أسهمت بشكل أو بآخر بارتفاع نسبة جرائم القتل تحت ذريعة الدفاع عن الشرف”، وقد ازدادت هذه الجرائم “مع تصاعد حدة النزاع السوري”.

أمام هذا الواقع السوداوي، شددت تمو على ضرورة “توعية المجتمع لإيقاف كافة أشكال العنف والتمييز ضد المرأة، الذي يؤدي بدوره إلى الحد من هذه الجرائم”، ويكون ذلك عبر “تنظيم محاضرات مكثفة في القرى والبلدات، وتعريفهم بقانون الأسرة والقوانين والعقوبات المتعلقة بجرائم القتل”.

أوضحت أن “قسم من المجتمع لا يعلم قوانين الإدارة الذاتية، ويعتقد أن عقوبة جريمة القتل بذريعة الشرف هي ذاتها في القانون السوري”، في إشارة إلى المادة 548 من قانون العقوبات السوري، المتعلقة بمنح العذر المخفف بـ”جرائم الشرف”، التي ألغيت بموجب القانون رقم 2، الصادر في آذار/ مارس 2020، الذي نص أيضاً على إلغاء جميع تعديلات المادة الصادرة في عام 1949.

وفي هذا السياق، قالت ريما بركات، الرئيسة المشتركة لمجلس العدالة الاجتماعية في شمال شرق سوريا لـ”سوريا على طول”: “لا يمكن تشديد العقوبات أكثر من ذلك، لأن دستور شمال شرق سوريا يمنع عقوبة الإعدام، والسجن المؤبد هو العقوبة الأشد”.

وذهبت بركات إلى ضرورة “توعية المجتمع للحد من هذه الجرائم، والقيام بحملات توعية من شأنها النهوض بالمجتمع وتغيير ذهنيته”، إضافة إلى إدراج التوعية “في مناهج التعليم”، مشيرة إلى أن “الحل يحتاج إلى خطط بعيدة المدى، لذلك الجانب التوعوي أهم من القانوني”.

من جهتها، فصّلت نازدار ملا درويش، المديرة التنفيذية لمنظمة تاء مربوطة، منظمة معنية بشؤون المرأة في شمال شرق سوريا، آلية العمل لمكافحة جرائم قتل النساء، مشددة على أن “العملية تتطلب تضافر الجهود وعلى عدة مستويات”.

على الصعيد القانوني “يجب تشديد العقوبات على مرتكبي هذه الجرائم”، كما قالت درويش لـ”سوريا على طول”. أما فيما يخص الجانب التوعوي، شددت على ضرورة “تثقيف المجتمع بأهمية المساواة بين الجنسين، واحترام حقوق المرأة، وتعزيز النساء وتمكينهنّ اقتصادياً واجتماعياً، إضافة إلى توفير بيئة آمنة وعادلة لهن”.

“جرائم قتل النساء هي انتهاك صارخ لحقوق الإنسان، وتعكس التفاوت الكبير في المعاملة بين الجنسين والتمييز ضد النساء”، بحسب درويش، مشيرة إلى أن منظمتها “تنظم حملات حشد ومناصرة عبر وسائل الإعلام حول القضايا المتعلقة بالمرأة”.

وفي إطار جهود “تاء مربوطة”، تعقد المنظمة “جلسات تتمحور حول خطاب الكراهية، الذي يستهدف النساء وحقوقهن، والعنف القائم على النوع الاجتماعي، ودعم ومناصرة حق المرأة في الميراث”، إضافة إلى “بناء قدرات الفتيات في المجتمع لتمكينهم من الدخول إلى سوق العمل”، بحسب درويش.

بدلاً من انتظار العدالة في قضية مقتل ابنتها، رددت والدة نغم ذياب مراراً أنها لا تريد أن يُحاكم ابنها القاتل، قائلة: “أنا مسامحته”، وهنا يبرز سؤال، ما إذا كانت جهود المنظمات في مناصرة قضايا المرأة والحد من الجرائم “بذريعة الشرف” ستثمر أم لا؟

تم إنتاج هذا التقرير بالتنسيق مع منظمة تاء مربوطة، ضمن المرحلة الثانية من برنامج مراس لتمكين الصحفيين/ـات في شمال شرق سوريا.