عبداللطيف الواري – القدس العربي. إلى حدود منتصف القرن العشرين، ظل الصوت الشعري النسائي، عبر عصور القصيدة العربية، رديف اليتم والغياب. إذا استثنينا شاعرات نادراتٍ مثل الخنساء في الجاهلية والإسلام، وليلى الأخيلية في العصر الأموي، والفارعة ورابعة العدوية في العصر العباسي، وولادة بنت المستكفي في العصر الأندلسي، وعائشة التيمورية في العصر الحديث، فإننا نكاد لا نجد من يدخل في زمرة الشاعرات إلا الإماء والجواري والقيان، اللائي يصلنا منهن شوارد من الأبيات والمقطعات، كما في «الأغاني» للأصفهاني. فمعظم الأشعار المنسوية للنساء في معظم الكتب والمختارات الشعرية الخاصة بهن، مثل: «أشعار النساء» للمرزباني، و«الإماء الشواعر» للأصبهاني، و«نزهة الجلساء في أشعار النساء» للسيوطي، و«الحدائق الغناء في أخبار النساء» للمالقي، لا تعبر في الحقيقة سوى عن مساهماتهن في مجالس الأنس والسمر والمنادمة، وبالتالي غدت الصورة الأغلب على نتاجهن مقرونة بالنموذج العاطفي الخليع، وبالنظْم الهاوي الذي تتحكم به أساليب الإغراء وإثارة المتعة والطرفة.

وفي مقابل هذا النتاج المتبعثر الذي نُظِر إليه باعتباره هزلا و«مرفوضا» دعمت الفاعلية النقدية نتاجا «جادا» للنساء الشاعرات حصرته في غرضين، هما: الرثاء والافتخار. وهكذا وضع ابن سلام الخنساء ضمن طبقة أصحاب المراثي، وذكر لها ثلاثة أبيات فقط في رثاء أخويها صخر ومعاوية، وأورد الأصمعي في «الأصمعيات» قطعة لشاعرة واحدة هي سُعدى بنت الشمرذل الجُهينة ترثي أخاها، ومثل ذلك فعل المفضل الضبي فأورد قطعة لامرأة من بني حنيفة ترثي شخصا من قومها، وذكر ابن قتيبة في «الشعر والشعراء» للخنساء وليلى الأخيلية نماذج من الرثاء. وحتى أبو تمام نفسه ذكر في «الحماسة» لنحو ست وعشرين شاعرة أغلبهن من الجاهلية وصدر الإسلام، أبياتا ومقطعات معظمها في الرثاء والافتخار. وفي «بلاغات النساء» أورد ابن طيفور لعدد من الشاعرات أشعارا قلنها في الرثاء والفخر، أو في الحض على الثأر، متقفياَ أثر سابقيه الذين «كانوا يقولون: أجود أشعار النساء، أشعار الموتورات الحاضات على الطلب والمُعيرات والثاكلات المؤبنات وأشعر النساء في الجاهلية والإسلام، الخنساء». أما القرشي فلم يأْتِ في «جمهرة أشعار العرب» على ذكر أي شاعرة حتى في باب المراثي نفسها. وكأن هذه الشاعرة أوكل لها دور الراثية، فلم تتمتع بحقها في قول رغائبها وما ينتفض بين جوانحها على ميدان السلطة الأدبية، التي احتكرها الرجال واخترعوا تقاليدها القولية على هواهم، ولهذا «لم تستطع المرأة العربية أن تبدي مقاومة، لتجاوز الأدوار التي أعدت لها شعريا، إلا في حالات قليلة» على حد تعبير فاطمة المحسن.

من هنا لم يكن نُقادنا القدامى يختارون من شعر النساء إلا ما جاء في «باب التعازي والمراثي» الذي يكرس «الفضيلة الاجتماعية» لأنه باب الجد واختبار الصدق، وأنه يجري مجرى الشعر الجَزْل الذي لا ابتذال أو تهالك فيه، وأن من عادة المرأة وطبيعة تكوينها النفسي أنها تُجيد ـ في نظرهم- من قول الشعر ما يثيره شبوبُ عاطفتها والشعور بالحزن والفداحة عندها، وإلا ما قدموا الخنساء على فحول الشعراء، بسبب مراثيها في أخيها صخر، أو ليلى الأخيلية لمراثيها في توبة بن الحمير. وعدا ذلك، لم يكن النقاد يستسيغون شعر المجالس، إذ بدا عليه ليْنٌ وفتنةٌ وتهالُكٌ على العاطفة. ونجد، ابتداء من العصر العباسي، أن عديد «الجواري والقيان» من صرفت شعرها أو نظمها الشعر إلى وصف الطبيعة والحب الذي يقرب من التهتك والمجون، وبعضه إلى شعر التصوف والزهد بعد «توبتهن» وغير ذلك. فكان أعلام الشاعرات تبرز تبعا لمقاييس العصور المختلفة، وكانت مهمة الشاعرة تمتد من مجرد نظم الشعر، لكي تندرج ضمن مدرسة فنية لها مقوماتها وسماتها الخاصة وذوقها الفني. ومع ذلك، ظل النقد والخطاب الموازي لشعرها لا ينظر إليها، إلا باعتبار نموذج الشاعرة البكاءة التي لا تجيد سوى ذرف الدموع.

كانت هناك نظرة دونية ناجمة عن البنية الذهنية للمجتمع العربي، كانت ترى إلى أدب المرأة بوصفه ضعيفا وقليل القيمة لا يُضاهي أدب الرجال، وهو ما جعل المرأة تتهيب من خوض نشاط الأدب، وحُكِم عليها أن تبقى خارج حلبته أو معركته داخل المجتمع، وهو ما يُفسر غياب المدونة الأدبية النسائية العربية، أو على الأقل تبعثرها ونُدْرتها.

أدب المرأة.. أي معنى؟

يقودنا الكلام السابق إلى الاستنتاج أنه كانت هناك نظرة دونية ناجمة عن البنية الذهنية للمجتمع العربي، كانت ترى إلى أدب المرأة بوصفه ضعيفا وقليل القيمة لا يُضاهي أدب الرجال، وهو ما جعل المرأة تتهيب من خوض نشاط الأدب، وحُكِم عليها أن تبقى خارج حلبته أو معركته داخل المجتمع، وهو ما يُفسر غياب المدونة الأدبية النسائية العربية، أو على الأقل تبعثرها ونُدْرتها. لكن في المقابل، نجد شواهد متفرقة تذهب إلى أن الشعر العربي، لم يعدم عبر تاريخه شاعرات كبيرات وحكيمات، ابتداء من عصر الجاهلية الذي شهد ميلاد عشرات منهن، ممن وردت لهن دواوين أو مقطوعات، أو حتى مجرد أبيات قصيرة. ويروى عن الصاحب بن عباد، أن أبا بكر الخوارزمي وفد عليه فاستأذن عليه من حاجبه، وكان الصاحب يعرف بوصوله فأراد مناكدته، فقال للحاجب: قل له إن مجلسي لا يدخله إلا من يحفظ عشرين ألف بيت من شعر العرب. فقال الخوارزمي: قل له هذا من شعر الرجال أم شعر النساء». ووصلنا من الأخبار أنه وُجِد في الأندلس ستون ألفا من الشاعرات، وكان أغلبهن من غرناطة، وإذا كان هذا العدد مبالغا فيه، إلا أنه يومئ إلى وجود «حركة نسوية شعرية».

وقد ظلت هذه النظرة توجه مجمل نشاطية الأدب، كأنها غدت ضربا من سلطة السنن الثقافية، الذي رَسخته مؤسسة الأدب وارتضته الذائقة المهيمنة، ولم تتزحزح تباعا إلا مع اشتداد الدعوة الإصلاحية منذ أوائل القرن العشرين إلى تحرير المرأة ومنحها حقوقها المسلوبة منها. ومنذ منتصفه، بدأ الصوت الجماعي للمرأة الأديبة يهب، في موجات متتالية، ليرمي عنها سمات السلبية والخنوع والتردد، ويكسر حاجز الخوف من قول أناها ودفائنه؛ ومن ثمة برز اشتداد الحاجة عندها للتعبير، بأسماء مستعارة في بادئ الأمر، عن معاناتها الذاتية، وشجونها الخاصة، وجماليات أنوثتها وتفاصيل جسدها وأرشيفها الشخصي الموجع، ووجدت في الأدب بأجناسه، شعرا وسردا، ما استجاب لهذه الحاجة الملحة.

في سياق ذلك، جرى الحديث عما اصطلح على تسميته بـ(أدب المرأة) و(الأدب النسائي) و(الكتابة النسائية) أو(كتابة الأنوثة) داخل حقل الأدب، مُتجاوبا مع بعض الداراسات الثقافية، ودراسة النوع الاجتماعي أو الجنوسة تحديدا. وقد حملت مثل هذه التعبيرات تقسيما جِنْسانيا لمفهوم الأدب ووظيفته، وطرحت معها نقاشا لم يهدأ إلى اليوم، بين مُؤيد ومستنكر. مثلما أيقظ الوعي بـ»النسوانية» لدى كثير من الشاعرات، وكاتبات القصة والرواية والمشتغلات بفني السينما والوثائقي في السنوات الاخيرة. ويمكن أن نجرى مسحا للكاتبات العربيات انطلاقا من مقولة مفادها أن الأدب النسائي بات رافدا مهما من روافد الأدب العربي الحديث، وتحديدا منذ الربع الأخير للقرن التاسع عشر، وانطلاقا من ازدياد اهتمام مؤرخي الأدب العربي بهذا الأدب النسائي. اللائحة طويلة وكبيرة، ومعتمدة على مراجع ومصادر متنوعة صارت تكفل التأكد من صحة المعلومات والمعطيات.

تأنيث القصيدة

مثلت حركة الشعر الحديث وبزوغ نجم الشاعرة العراقية نازك الملائكة؛ «المرأة الأنثى التي حطمت أهم رموز الفحولة» حسب تعبير عبد الله الغذامي، بمثابة البداية الحقيقية للصوت الشعري النسائي الجديد، الذي لم يتأخر عن مساهمته في تحديث القصيدة العربية وتحريرها من القوالب الأسلوبية والعروضية التي رانت عليها سنين عددا؛ فعمل، بذكاء ممثلاته الرائدات من أمثال نازك الملائكة وفدوى طوقان وعاتكة الخزرجي وملك عبد العزيز ولميعة عباس عمارة وآمال الزهاوي ومليكة العاصمي وغيرهن، على إدماج النفس الأنثوي في نسيج اللغة الشعرية، وتنويع بعدها الإيقاعي بخفوته وتردداته المهموسة، وتوسيع مداها المعجمي والتصويري، وتهويتها وجدانيا وقيميا، عبر إطلاق العنان لخيالهن البكر والمهمل في إنارة المناطق «المكبوتة» و«القوى الكامنة» و«الهذيان الداخلي» لأنا الكتابة ورؤيتها الأنثوية للعالم بما تنغلق عليه من إيحاء بالبساطة والغموض والهشاشة، وتوق إلى الحياة والفن وتحرير مفردات الجسد وطاقاته الكامنة.

ومع شيوع قصيدة النثر، انعطفت الشاعرات بتجاربهن إلى مرحلة شعرية جديدة لعل أهم سماتها، تجذير البعد الأنثوي للقصيدة بخصائصها اللغوية ومقوماتها البلاغية والفنية، بما في ذلك النزوع نحو الذاتية والانهمام بالجسد بتفصيلاته وإيحاءاته المتنوعة.

ففي مقابل معجمها الذكوري الذي يتغنى بالفروسية والاستعلاء، ويتسم بالصنعة والجزالة ومتانة العبارة وطول النفَس، بدأ يتسلل إلى اللغة مزيجٌ من النثرية الهامسة وشبوب العاطفة، وانسياب الصور والأحلام، وتراسل الخواطر والرغبات المكبوتة، وعذوبة الإيحاءات العفوية بسمتها الغنائي وإيقاع ذاتيته. وفضلا عن ذلك، ثمة تدفق الموضوعات التي تستأثر باهتمام المرأة ومزاجيتها وفضولها العاطفي، بما في ذلك الرثاء، رثاء الذات تحديدا، والحب والحرية والشعور بالعزلة والخوف من الزمن والموت والنزوع إلى المطلق والمجهول هربا من شراهة المادة ووجودها الضاغط. وكانت هذه الموضوعات يتشابك فيها البعد النفسي بالبعدين المأساوي والفلسفي، والبعد الشخصي والسيرذاتي بالبعد الجمعي في شقيْه القومي والإنساني.

وقد ترافق ذلك مع المناخ العام للمشهد الأدبي إبان الستينيات والسبعينيات من القرن الفائت، بمعاركه الأدبية وطروحاته الفكرية، التي وسمها الأثر الرومانسي بِغلالةٍ كثيفة، ودعوة «الأدب المهموس» التي أطلقها محمد مندور، والسجال النقدي الذي أثارته كل من نازك الملائكة، من خلال كتابها النقدي «قضايا الشعر المعاصر» وسلمى الخضراء الجيوسي وخالدة سعيد ويمنى العيد في مقالاتهن. عدا عن التأثر بالحركة النسوية التي اتسعت في أوروبا وصاحبها نقد نسائي أدبي وثقافي مواز.

ومع شيوع قصيدة النثر، انعطفت الشاعرات بتجاربهن إلى مرحلة شعرية جديدة لعل أهم سماتها، تجذير البعد الأنثوي للقصيدة بخصائصها اللغوية ومقوماتها البلاغية والفنية، بما في ذلك النزوع نحو الذاتية والانهمام بالجسد بتفصيلاته وإيحاءاته المتنوعة. وهو ما أتاح للدارسين أن يتلمسوا نشوء خطاب شعري نسائي، يراهن بأنساقه وكيانه الذاتي على تحقيق جماليات مغايرة، بقدر ما يرفض تبعيته لسلطة الخطاب الذكوري – الفحولي، أو تقليده والانضواء تحته، بل يتحداه ويتمرد عليه. وهكذا، يبدو أن لسان المرأة صار يسترد حقوقه الاعتبارية عبر توطين لغته النوعية والمرحلة كنسق من العلامات إلى فضاء الكتابة الشعرية، على نحو يعيد المرأة إلى الكتابة بقوة، ويسمح لها بالإقامة في العالم، كما تراه وتدافع عنه. كان الأمر أشبه بثورة ناعمة لانتزاع الاعتراف بوجودهن، والإقرار بحضورهن وحقوقهن في تقرير مصيرهن الإبداعي والإنساني، وقد دفعن ضريبة غالية في سبيل ذلك، ومن أجل تشييد سياسات مجالهن الحيوي. دافعت نازك الملائكة عن ذلك منذ قصيدتها الأولى، وواجهت ذائقة «ذكورية» في البيت، وتوسع الأمر مع أخرى «سلفية» كانت تؤمن بعمود الشعر. وواجهت فدوى طوقان رد فعل أبيها على مجهوداتها الشعرية الأولى: «قلتُ في نفسي، هو لا يؤمن بأنني أصلح لشيء، وأنه لا يشعر نحوي إلا بعدم اكتراث، كأنني لا شيء، وكأنني عدم وفراغ، وأنه لا حاجة لوجودي إطلاقا». وكان صوتها يتجاوب مع صوت نازك الذي كان «ذا أصداء قوية في النفوس». ومثل ذلك، واجهت مليكة العاصمي محنتها الخاصة، من أجل إثبات صوتها في «كتابات خارج أسوار العالم» وفي «أصوات حنجرة ميتة» وللعنوانين معا أن يثيرا غبار الأسئلة. تقول: «كانت المرأة حاضرة وفاعلة في كل الأزمنة والأعصر، لكن التاريخ لم يكن يراها، عيب النقد والنقاد والتاريخ والمؤرخين، ومؤاخذتي لهم تتعلق بمسألة المحو كجريمة تاريخية».

لقد كان ميدان السلطة الثقافية محتشدا بالموانع والتابوهات من كل صنف، وكان صوت المرأة يصارع بين حياة وموت، حتى أثبت أحقيته في الوجود، وأبدع أشكال الإقامة فيه بجدارة. لكن يُخشى اليوم، وفي ظل استسهال الكتابة والتعاطي معها كيفا اتفق، أن يُستبدل بسلطة الذكورة سلطة خفية مُدمرة تغري المرأة بالانقياد السهل وراء العواطف وابتذالها، والاستسلام للشكليات والمظاهر التي قد تفرغ أُنوثتها وإنسانيتها من أي قيمة نوعية.