هذا المقال أُنتج ضمن مشروع “المدافعات عن حقوق المرأة”، بدعم من منظمة Civil Rights Defenders.

سارة الشيخ علي – رصيف22 | لمجرّد كتابتي السطر الأوّل، شعرتُ برغبة عارمة في البكاء. ففي هذه اللحظة بالذات، وأنا أكتب كلماتي، أجلس في مكان غير آمن، في مدينة غير آمنة، في بلد غير آمن، لكن لا خيار آخر لديّ. في هذا المكان، أتذكّر أنني هُجّرت، وأنني مُنعت من زيارة أهلي لأسابيع، وتعرّضت لملاحقات من حزب نافذ. أتذكّر أيضاً كيف أنني أتلقى دورياً رسائل تتضمّن تهديدات بالاغتصاب… هكذا، وبكل بساطة.

أقرأ هذا السطر الأخير، وعبارة “تهديدي بالاغتصاب” تحديداً، فأشعر بالاختناق وبتسارع نبضات قلبي، قلبي هذا الذي لم تعد دقاته تنتظم إلا بحبّة دواء، يهدّد سلامتي وحياتي احتمال انقطاعها من الأسواق. يقول الأطباء إنّ التوتر والضغط هما السبب وراء عدم انتظام دقات قلبي. أقول أنا إنه انعدام الأمان، الجسدي والنفسي. فأنا، كامرأة نسوية ولبنانية من بعلبك، خائفة. خائفة على نفسي، وعلى أخواتي، وعلى صديقاتي، وعلى زميلاتي. خائفة من أن تحرمني حربٌ عبثية أو تهديد، من زيارة قبر أمّي.

أمّي أيضاً كانت خائفةً. كانت ترجوني أن أحذف ما أكتب على فيسبوك. كانت تذكّرني بأننا “مش قدّن”. كانت تنهار في كل مرّة تُقطع الطرقات فيها ويشتبك مناصرو الأحزاب. تتصّل وترجوني أن أبقى في زحلة حيث كنت أدرس في الجامعة التي تبعد ساعتين من قريتي، وأن أقضي الليلة لدى إحدى صديقاتي. أمّي، في آخر أسابيع حياتها، كانت تفتح يديها وتنظر إلى السماء وتدعو لي ولزوجي، أن نتمكّن من ترك لبنان والسفر قريباً. فأنا ارتكبتُ جريمةً أخرى دفعتْها إلى التشديد على طلبها هذا. فبالإضافة إلى كوني مدافعةً عن حقوق الإنسان ومعارضةً وغاضبةً، فعلتُها وتزوّجتُ رجلاً غير لبناني.

أمّي أيضاً كانت خائفةً. كانت ترجوني أن أحذف ما أكتب على فيسبوك. كانت تذكّرني بأننا “مش قدّن”.

ليست قصتي ملهمةً بالضرورة، ولا استثنائية، لكنها حتماً مكرّرة. هي، ككل قصص النساء مع الخوف وانعدام الأمان، تخبرنا بأمر مهم، وهو أن للأمان أبعاداً وطبقات، وأن أماننا تقاطعي، بمعنى أن في ثناياه تتقاطع التهديدات وأشكال التمييز والتحديات التي نواجهها كنساء ومدافعات، مع الأزمات الاقتصادية والسياسية العميقة، كتلك التي يمر بها لبنان.

كيف نكون آمنات جسدياً؟

هل يجب أن تحمل كل واحدة منا حزاماً أسود في الجودو، أو أن تحترف المواي تاي؟ هل يجب أن تعيش النساء في قلعات مشيّدة؟ هل يجب أن نكون محصّنات بالكامل ضد متحوّرات كورونا والسرطانات وكل أنواع الأمراض؟ هل يجب أن نكون خارقات لنكون محميّات؟ الجواب هو قطعاً لا. أنا لست سوبر وومان، ولا أريد أن أكونها.

أنا امرأة عادية بأحلام بسيطة، كأن أعيش في عالم آمن، وألا أتعرّض للتحرّش أو الاغتصاب أو العنف الجسدي، وألا يقول لي رجل خلال تواجدي في المظاهرة: “الصبايا لورا”، وألا يقال لجندي في معرض ثنيه عن ضرب مُتظاهرة: “ما اعتبرها أختك”. ألا يعتقد رجلٌ أن سلامتي الجسدية هي مهمّته، فيصبح جسدي مسرح نزاع بين رجلين، من دون أن يكون لي دور في ذلك.

أمنياتي كلبنانية غير محصورة في البقعة الجغرافية التي أعيش فيها. كلبنانية، أبحث عن أمنياتي في سوريا أيضاً، حيث الأمان الجسدي هو ألا تتعرّض آلاف السوريات لكل ما في قائمة أشكال العنف المبني على النوع الاجتماعي والتعذيب في معتقلات نظام الأسد أو خلال العمليات العسكرية المباشرة، وهو ألّا يختطف جيش الإسلام المدافعتين عن حقوق الإنسان، رزان زيتونة وسميرة الخليل، وتظلا مجهولتَي المصير.

أمنياتي كلبنانية في مصر أيضاً، حيث الأمان الجسدي هو ألا تحدث تحرّشات فردية وجماعية، وألا يتم فحص عذرية المتظاهرات اللواتي يُعتقلن، وألّا تُقتل نيّرة أشرف وغيرها لأنهن رفضن الارتباط بقاتلهن، وألّا يُزجّ بالعابرة جنسياً، ملك الكاشف، في سجن الرجال، وألّا تصعَق سارة حجازي، بالكهرباء خلال فترة سجنها، وألا تُسجن منذ البدء بتهمة أنها كانت شجاعةً إلى الحد الذي جعلها تعلن أن لا سلطة لنظام أو مجتمع أو عائلة على جسدها.

كلبنانية، أبحث عن أمنياتي في سوريا أيضاً، حيث الأمان الجسدي هو ألا تتعرّض آلاف السوريات لكل ما في قائمة أشكال العنف المبني على النوع الاجتماعي والتعذيب في معتقلات نظام الأسد أو خلال العمليات العسكرية المباشرة

أمنياتي في تونس، حيث الأمان الجسدي يعني أن تذهب الفلاحات إلى عملهن يومياً من دون أن يتعرّضن للدهس فتموت واحدة منهن على الأقل في اليوم، بسبب سوء أوضاع الطرقات. أمّا الأكثر حظاً منهن، أي التي لا تتعرّض للدهس، فتحصل فقط على ثلث ما يجنيه الرجل من دون اعتراف الدولة بها كمنتمية إلى فئة عاملة، وتالياً كمستحقة لضمان اجتماعي وأجر لائق.

الأمان الجسدي بالنسبة إلي، هو ألا نقرأ خبراً عن رجم إيرانية بتهمة الزنا، وألا تموت مهسا أميني والعشرات غيرها بسبب “حجاب غير لائق”، وألا تُقتل إسراء غريب، بداعي “الشرف” في فلسطين، وألا يكون هناك وجود لشيء اسمه جريمة “شرف” أصلاً.

قرأتُ مرّةً عبارةً تقول: “يخاف الرجال من أن تهزأ بهم النساء، وتخاف النساء من أن يقتلهن الرجال”. بالفعل، الأمان هو بلاد لا تُقتل فيها النساء لمجرّد كونهنّ نساءً.

الأمان الجسدي بالنسبة إلي، هو ألا نقرأ خبراً عن رجم إيرانية بتهمة الزنا، وألا تموت مهسا أميني والعشرات غيرها بسبب “حجاب غير لائق”.

أمّا أمنياتي الجسدية خلال الأزمة الاقتصادية التي يمرّ بها لبنان تحديداً، فهو ألّا يُقال لي: “هيدا توتر”، وتعطيني الطبيبة المناوبة حبّة “ليكزوتانيل”، حين أذهب إلى طوارئ المستشفى بسبب آلام في الصدر وانقطاع في النفس. وهو أن تؤخذ آلامي بجديّة وأخضع لكل الفحوصات الممكنة. وهو ألّا أرى تعاملاً مختلفاً مع الآلام نفسها حين يعانيها رجل لمجرّد أنه رجل. هو في الأصل إمكانية وصولي إلى الخدمات الصحية بشكل مجاني، وإدخالي المستشفى بالرغم من عدم امتلاكي تأميناً صحياً، ومن دون أن أضطر إلى دفع مبالغ طائلة.

أماننا الجسدي في لبنان هو أن نجد فوطاً صحيةً مجانيةً في المدرسة والجامعة والمطعم وأماكن العمل. هو ألا تعدّ الدولة أن الفوط الصحية من الكماليات، فلا تدعمها ضمن خططها الاقتصادية، وهو ألا أخجل حين أدخل المحال التجارية أو الصيدليات لشرائها، وألا أنتظر مغادرة جميع الزبائن لأطلبها حصراً من امرأة ستضعها لي في كيس أسود.

أماننا الجسدي كمدافعات ونساء حول العالم، يأتي أيضاً من احترام حقّنا في الإجهاض الآمن، من دون وصم وخوف، وتعريض حياتنا للخطر. هو ألا تتعرّض النساء للتعنيف خلال الولادة، وألا تُضرَبن أو يتم إسكاتهن ليُمنعن من الصراخ، وأن تُقدَّم لهنّ الرعاية المناسبة. هو ألّا نتعرّض للتحرّش في الشوارع ووسائل النقل، وألّا نخشى التعرّض للاختطاف حين نسافر وحيدات، وهو قدرتنا على المكوث في فنادق آمنة من دون رجلٍ مرافق.

أماننا الجسدي كمدافعات ونساء حول العالم، يأتي أيضاً من احترام حقّنا في الإجهاض الآمن، من دون وصم وخوف، وتعريض حياتنا للخطر

قصّتي مع الأمان النفسي…

بالنسبة إلينا كنساء ومدافعات عن حقوق الإنسان، يكمن الأمان النفسي، ببساطة، في قدرتنا على أن نكون على طبيعتنا، في حياتنا الخاصة والمهنية، من دون الخوف من أن نتعرّض للخطر لمجرّد أن نقول ما نفكّر فيه. هو في قدرتي على البوح من دون الخوف من الأحكام. هو في تسامحي مع أخطائي، ومع ضعفي. هو أن أعارض الأنظمة الدينية والديكتاتوريات وأؤيد حقوق أفراد مجتمع الميم-عين من دون أن تعتريني نوبات هلع ناتجة عن عشرات الشتائم والرسائل المهينة، وتشويه سمعتي وتهديد أهلي. الأمان النفسي هو أن أعيش في عالم يحترم حقوقي ويعترف بأنني إنسانة كاملة ولست ناقصة عقل ولا ذكاء ولا حق لمجرّد أنني لم أولد رجلاً. هو ألا يقول لي أحد إنني امرأة بألف رجل. أنا امرأة فقط، قيمتي لا يحدّدها رجل، والرجل ليس مقياساً لنجاحي أو تقدّمي.

أماني النفسي هو قدرتي على منح الجنسية لزوجي وأطفالي مستقبلاً، عوضاً عن “إقامة مجاملة” تفضّلت بها الدولة اللبنانية على زوجي بعد مرور سنة على زواجنا، وبعد أن وقّعتُ تعهّداً بأنه لن يعمل في لبنان. أماني النفسي هو أن أكون مواطنةً أتمّتع بكامل حقوقي المدنية والسياسية.

أماني هو بأن أعارض الأنظمة الدينية والديكتاتوريات وأؤيد حقوق أفراد مجتمع الميم-عين من دون أن تعتريني نوبات هلع ناتجة عن عشرات الشتائم والرسائل المهينة، وتشويه سمعتي وتهديد أهلي

يهتز هذا الأمان في كل زيارة أقوم بها إلى منزل عائلتي في “الضيعة”. فمسألة عدم إنجابي طفلاً، بالرغم من مرور أكثر من سنة على زواجي، أصبح حديث نساء العائلة والجارات والقريبات. أتخيّل دائماً ماذا ستكون ردة فعلهن لو علمن بأنني لست واثقةً بعد من رغبتي في أن أصبح أمّاً، وأن مفهوم “الأم الجيدة” في نظري يختلف تماماً عن مفهومهنّ! وأنني، حتى لو قررت الإنجاب، لن أتخلّى عن هويتي كمدافعة عن حقوق الإنسان وناشطة نسوية ولا عن دراستي ولا عملي ولا رغبتي في السفر حول العالم، ولا عن علاقتي الوادعة والممتعة مع شريكي الذي أحب، وأنني لا أنوي في أي حال من الأحوال أن أصبح مربيّة أطفال وشريكة سكن لزوج أكرهه ويكرهني.

يهتز هذا الأمان في كل زيارة أقوم بها إلى منزل عائلتي في “الضيعة”.

أماني النفسي هو قدرتي على قول هذا كله من دون أن يفتح الأمر عليّ باباً من الأسئلة والاستهجان لن تغلقه سوى قوى خارقة. هو أن أرتدي ما أريد في اجتماعات العمل من دون التخوّف من أن أبدو مبالغةً في أنوثتي، فلا أؤخذ على محمل الجد. هو أن أرتدي البيكيني على الشاطئ من دون أن يلتهمني رجل بعينيه ويغتصبني في مخيّلته. هو ألّا أسمع عبارات مثل: “ليش نصحانة؟ اضعفي شوي”. هو ألّا يكون جسدي شأن أحدٍ غيري.

أماني النفسي هو أيضاً أن يتوقف الآخرون عن توقّع دوري كامرأة؛ يستغربون مثلاً أن زوجي يطبخ، أو يوجّهون إليه فقط السؤال عن أمور تتعلّق بخططنا وحياتنا. هو ألّا يستقبلنا المضيف في المطعم بـ”أهلاً مسيو، وين بتحبوا تقعدوا؟”. فالأمان يعني ألا يتم التعامل معنا وكأننا غير مرئيات.

الأمان النفسي هو ألا يشكّل نجاحي وشخصيتي تهديداً للرجال من حولي، فأُطالَب دائماً بأن أكون أقل؛ أقل ذكاءً، أقلّ ظهوراً، أقلّ تمرداً، وأقلّ طموحاً، وأن أكون أكثر أنوثةً، وأكثر جاذبيةً، وأكثر اهتماماً بشكلي… أي أكثر التزاماً بدوري المتوقع كامرأة شرقية.

الأمان النفسي هو ألا يشرح لي رجل كيف أكون نسويةً جيدةً، وألا يخبرني بأنه عليّ رفض فكرة الكوتا لأنه يعدّها “إهانةً للنساء”، وألا يرى زميلي “المدافع عن حقوق الإنسان”، أن نضالي وحقوقي ليست أولويةً في الوقت الراهن. هو ألا اضطر إلى خوض المعارك أيضاً مع الرجال الذين كنتُ أظنهم حلفاء وشركاء نضال. هو أن يستمع أولئك الرجال الحلفاء إلينا، عوضاً عن ممارستهم “الفسرجة” أو الـmansplaining، هوايتهم المفضلة أو آليتهم الخاصة لمواجهة النقص الذي يشعرون به أمام امرأة ناجحة.

الأمان النفسي بالنسبة لي، كان أن تحصل سارة حجازي على العلاج والدعم المناسبَين، عوضاً عن تبنّي الحكومة الكندية لمقاربة “بيضاء” لأشكال الدعم النفسي المُقدّمة عادةً للمنفيات والمنفيين من هذا الشرق. كان أيضاً أن تجد نادين جوني سريراً لأمّها مريضة السرطان، في بيروت، وألا تضطر إلى نقلها إلى مدينة صيدا، فتموت نادين في حادث سير عند عودتها فجراً من زيارة أمها إلى حيث تسكن في بيروت.

الأمان النفسي هو ألا يشرح لي رجل كيف أكون نسويةً جيدةً، وألا يخبرني بأنه عليّ رفض فكرة الكوتا لأنه يعدّها “إهانةً للنساء”

نادين الناجية من عنف طليقها، لم تنجُ من عنف الدولة، ولا من عنف المحاكم الدينية التي حرمتها من طفلها كرم. نادين تعرّضت لكل أشكال العنف؛ ضُربت، وشُتمت، وهُدّدت، وواجهت حملات تشويه السمعة. عاداها كثر، وحُرمت من حضانة طفلها عندما كان في عمر السنتين، وهاجرت إلى بلاد جديدة علّها تجد فرصاً أفضل… ثم عادت إلى بلادها القديمة لتموت فيها.

الأمان يا نادين، هو ألاّ يحدث لنا هذا كله.