648
نسوية إسلامية
“نسوية إسلامية” أم مسلمات مدافعات عن حقوق المرأة المسلمة
طارق عزيزة)1)
أولً: ملخص تنفيذي
يتناول البحث “النسوية الإسلامية،“ فيعرّف بها وبقضاياها الرئيسة، ثم يناقش منطلقاتها ومنهجها من منظور نقدي)2)، لتَبيّن مدى “نسوية“ هذا التيار، وانسجامه مع جوهر الفكر النسوي، وما استقرّ عليه من موقف تجاه نظام الهيمنة الأبوي )البطريركي( بتمظهراته كافّة. ذلك أنّ هذا الموقف محدِّدٌ أساس في التمييز بين النضال والفكر النسوي، ونظيره النسائي الذي يمثّل -في الغالب- توجّهًا “إصلاحيًا“ ضمن النظام الأبوي نفسه، ما قد يأتي بنتائج عكسية، تكرّس مرجعيّات ذلك النظام، وتموّه هيمنته بدلًا من تقويضها.
ومما تُثار المناقشة بشأنه التناقضُ بين علمانية الفكر النسوي والحركات النسوية عمومًا، وعالميتهما، وتمسّك “النسوية الإسلامية“ بالمرجعية الدينية الإسلامية، وإن ترافق ذلك بنقد القراءات السائدة للإسلام، واقتراح قراءة بديلة. فإنّ إعادة قراءة نصوص الإسلام، وتأويلها لتنسجم مع حقوق النساء، تعدّ مشروعًا مركزيًا لـ“النسويات الإسلاميات،“ للحدّ من حالة التمييز ضدّ المرأة، المكرّسة بموجب “تفاسير ذكورية“ للنص الديني، وفق اعتقادهنّ، مع تمسّكهنّ بمرجعية النص نفسه، وتبرئته من شبهة الأبوية والتحيّز الذكوري.
تعتمد “النسوية الإسلامية“ نهجًا تأويليًا يُذكِّر بمحاولات مفكرين إسلاميين، سعوا إلى “الإصلاح الديني،“ ومواءمة الإسلام مع متغيّرات العصر عبر إعادة قراءة النصوص. فهذا المنهج ليس بجديد في السياق الإسلامي، غير أنّ “النسوية الإسلامية“ جعلت قضية المرأة في مركز التفكير، حيث تحاول تفسير نصوص الإسلام وتأويلها من منظور “نسوي“، وهذا مشابه أيضًا لمساعي كاتباتٍ غربيات حاولنَ تفسير الكتاب المقدّس من المنظور نفسه.
)1) كاتب وباحث سوري.
)2) ليس الغرض من البحث عرض الشروح التأويلية المطوّلة التي تتضمّنها أدبيات “النسوية الإسلامية“ أو مناقشتها، فهي متاحة للراغبين/ات في مطالعتها، بل التعريف بالظاهرة ونقد منهجها وجدواه، لذا سيُكتفى بالإشارة إلى مسائل رئيسية تناولتها أعمال بعض ممثلاتها.
و“النسوية الإسلامية،“ إذ تتمسّك بنصوص الإسلام الأساس )القرآن و“السنّة الثابتة(“ منطلقًا للنهوض بأوضاع المرأة و“الأسرة المسلمة،“ تُحمّل “التفاسير الذكورية“ وحدها مسؤولية التمييز ضدّ النساء، فلا تولي اهتمامًا جدّيًا لعلاقة الإسلام بالنظام الأبوي الضارب جذوره في عمق التاريخ، والتّارك بصماته في الأديان التي نشأت في كنفه جميعها. هنا تتركّز مناقشة حقيقة نسوية “النسوية الإسلامية،“ من منظور الموقف النسوي الصريح من النظام الأبوي نفسه، لا التحفّظ الانتقائي على بعض نتائجه ومظاهره فحسب.
لكن على الرغم من وحدة المرجعية الدينية، والحرص على الالتزام بها )مع اختلاف التأويل(، والدفاع عن “الإسلام“ أمام القائلين بتحيّزه ضدّ النساء، فإنّ تيار “النسوية الإسلامية“ يُواجَه بالرفض والعداء من وجهة نظر إسلامية، وتنتقده ناشطات إسلاميات على أساس مرجعيته ذاتها.
وما تحاوله “النسوية الإسلامية“ بإعادة تفسير النصوص، يقابَل بردود تستند إلى النصوص نفسها، ما يعني الدخول في حلقة مفرغة من التأويل والتأويل المضادّ، والبقاء في أسر “المقدّس“ المعاد إنتاجه وتكريسه.
ذلك كله يدفع إلى التساؤل عن جدوى التمسّك بنهج كهذا، بدلًا من الإبقاء على الدين في مجاله الخاص الشخسي والروحاني والتعبّدي، والاحتكام إلى مواثيق حقوقية، وقوانين وفلسفات وضعية بلغة قانونية عصرية صريحة لا تحمل اللبس والتأويل، وتطويرها بوصفها حصيلة مئات السنين من نضال النساء من أجل الحرّية والحقوق، بصرف النظر عن الدين، بما فيه من أثر سلبي للبعد الهوياتي/ الديني في النضال النسوي خصوصًا، والحقوقي الإنساني عمومًا.
ثانيًا: مقدمة
تطوّرت الحركة النسوية بموجاتها المتعاقبة، فظهرت مدارس واتجاهات متعدّدة، راكمت من خُلالها النساء حول العالم أرصدةً نضاليّة ونظريّة وتنظيميّة، انعكست إيجابًا في قضيّة المرأة، فأرسيت منهجيات متنوّعة قاسمها المشترك الأساس كان مواجهة النظام الأبوي، وقيمه المؤسِّسة للهيمنة الذكورية بصورها كافّة، ولعلاقات القوّة والتسلّط التراتبية التي يهيمن فيها الأقوى على الأضعف.
وباتت الحركة النسوية -وإن بدرجات متباينة بين اتّجاه وآخر- معنيّةً بكلّ ما يتّصل بنظام الهيمنة هذا، من عنصرية وتمييز وعنف واستغلال، وغيرها مما لا تقتصر تبعاته على النساء فقط، وإنما يطال مختلف الفئات الجندرية. ومن ثمّ، لم تعد النسوية ))حركة للدفاع عن حقوق المرأة فحسب، فذلك توصيف ينطبق على نسوية القرن التاسع عشر، أما اليوم فالنسوية منظومة فكرية متكاملة، ترى الإنسان الفرد كائنًا حرًّا مستقلًّا بذاته، ومواطنًا يتمتع بحقوقه كاملةً بغضّ النظر عن جنسه ودينه وعرقه، هي منظومة تسعى لسعادة المجتمعات ورفاهها، وإلى الحق والعدل، لذا فهي تنطوي على رؤية سياسية اقتصادية اجتماعية وثقافية بديلة، وفي هذا الإطار تسعى إلى رسم ثقافة إنسانية بديلة عن الثقافة الذكورية التي كرّست صورة دونية للمرأة، كنتاج للنظام البطركي “الأبوي”(()3).
والنظام الأبوي، في تعريفه الواسع، يعني تجلّي الهيمنة الذكرية على النساء والأطفال في الأسرة، ومأسستها، وتوسيع الهيمنة الذكرية على النساء في المجتمع بعامة. ويتضمّن أن الرجال يتولّون السلطة في مؤسسات المجتمع المهمة جميعها، وأن النساء محرومات من هذه السلطة. والهيمنة الأبوية )Paternalistic Dominance( تصف علاقة مجموعة مهيمنة، تُعدّ متفوقة، مع مجموعة خاضعة، تُعد أدنى، تُلَطَّف فيها الهيمنة عبر التزامات متبادلة وحقوق متبادلة))4. إذن، يمكن تمويه النظام الأبوي و”تلطيف” شكله، عبر صيغ مشتقّة من داخله، قد توحي بتحسّن ظاهري لأوضاع ضحايا الهيمنة، لا سيما النساء، من دون أن تلغي طبيعة النظام الأبوي، أو تغيّر جذر التصوّرات التراتبية التي يقوم عليها.
في صعيد آخر، وبعيدًا من نزوع الحركة النسوية نحو الانخراط في قضايا ومستويات مركّبة ومتداخلة في النضال ضدّ النظام الأبوي والهيمنة الذكورية الناجمة عنه، وعلى الرغم من أنّ الديانات التوحيدية الكبرى وآخرها الإسلام، ظهرت في وقت كان النظام الأبوي راسخًا، وألقى بظلاله على مقولاتها ومفهوماتها التأسيسية؛ برز اتّجاهٌ تصف ممثلاته أنفسهنّ بـ“النسويات الإسلاميات،“ حيث يعملن على “الجمع بين الوعي النسوي والمنظور الإسلامي،“ وهو ما يرينَه استمرارًا لجهد بعض رائدات العمل النسائي في المنطقة العربية منذ أواخر القرن التاسع عشر. ))وقد تطورت الفكرة في العشرين عامًا الأخيرة في العالم الإسلامي من خلال تطبيق الوعي النسوي لفهم معضلة التفاوت بين رسالة الإسلام التوحيدية وترجمة قيم تلك الرسالة السامية إلى عدالة وتكافؤ فرص وشراكة على أرض الواقع بين الجنسين وإلى الأخذ في الاعتبار الكرامة الإنسانية المتساوية للمسلمات والمسلمين(()5).
وبناءً على أنّ الموقف تجاه النظام الأبوي محدّدٌ أساس للتمييز بين النسوية )Feminism( والنسائية ،)Womenism(وبمناقشة صلة الإسلام بهذا النظام، وجدوى تأويل النصوص الدينية، يتناول البحث “النسوية الإسلامية” اعتمادًا على المنهجين الوصفي التحليلي والنقدي، ليجيب عن سؤال:
)3) ميّة الرحبي، النسوية مفاهيم وقضايا، ط1 )دمشق: دار الرحبة، 2014(، ص475
)4) غيردا ليرنر، نشأة النظام الأبوي، أسامة إسبر )مترجمًا( ط1 )بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2005(، ص450
)5) أميمة أبو بكر )محررة(، النسوية والمنظور الإسلامي آفاق جديدة للمعرفة والإصلاح، ط1 )القاهرة: مؤسسة المرأة والذاكرة، 2013(، ص4
هل “النسوية الإسلامية“ تيار “نسوي“، أم جهد “نسائي“)6)، للدفاع عن حقوق المسلمات؟
ثالثًا: تعريف بـ“النسوية الإسلامية“
في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين ظهرت كاتبات أردنَ تحرير النساء المسلمات والمطالبة بحقوقهن، عبر معارضة قراءات وتفاسير سائدة لبعض النصوص الإسلامية، ومناقشتها، كونها تكرّس الوضع الدوني للمرأة المسلمة، وتشرعن التمييز ضدّها، ومن أبرزهنّ عائشة التيمورية
)1840-1902(، وزينب فواز )1860-1914(، ونظيرة زين الدين )1908-1976(.
ويظهر أنّ إرث الكتابة النسائية في هذا المضمار، على الرغم من قلّته، دفع “نسويات إسلاميات“ إلى عدّ منهجهنّ “بدهيًا،“ بالقول ))إن السعي إلى التمكين من الحقوق على خلفية ثقافية إسلامية عامة كان من البديهيات، وإن غاب عن ذلك السعي، التنظيرُ المباشر والمناهج التحليلية المتعمقة للمصادر الرئيسية والمسميات من أجل طرح رؤية تجديدية شاملة حول قضايا المرأة في منظومة الفكر والعلوم الدينية(()7).
. تاريخ المصطلح
تختلف الروايات بشأن توثيق أول ظهور لمصطلح “النسوية الإسلامية،“ وإن اتفقت معظمها على تسعينيات القرن العشرين، إذ ظهر المصطلح بداية التسعينيات في جنوب أفريقيا ))كإحدى الأسس الفلسفية والسياسية لحركة الإسلام التقدّمي العاملة ضدّ نظام الفصل العنصري(()8).
وتزامن ظهوره مع نشر كتاب “الحداثة المحظورة والحجاب“ للكاتبة التركية نيلوفر غول سنة 1991، وصدور مجلة “زنان“ الإصلاحية في إيران سنة 1992، إضافة إلى استخدامه من كاتبات وباحثات مثل مارغوت بدران الكاتبة الأميركية ذات الأصول العربية التي استخدمته سنة 1999 معادلًا لـ“النسوية
)6) تختلف النسوية )Feminism( عن النسائية ،)Womenism( وهي ))مفهوم يتركز على النشاطات التي تقوم بها النساء في مختلف الصعد الحقوقية والسياسية والاجتماعية والثقافية، التي تشدّد على مطلب المساواة مع الرجل في الحقوق التي شرعها الرجال أنفسهم وفق رؤيتهم الذكورية. والنسائية، يمكن أن تكون إحدى أدوات تحقيق الرؤية النسوية، شريطة عدم تماهيها مع الثقافة الذكورية.“ يُنظر: علياء أحمد المصطفى، “دور منظمات المجتمع المدني )النسوية( في تغيير الأدوار الجندرية(( في: مجموعة مؤلفين، مشاركة النساء في السلام، الأمن والعمليات الانتقالية في العالم العربي، ط1، )بيروت: مؤسسة فريدريش إيبرت، 2018(، ص409.
)7) أميمة أبو بكر )محررة(، النسوية والمنظور الإسلامي آفاق جديدة للمعرفة والإصلاح، ص4
)8) سناء كاظم كاطع، “النسوية الإسلامية بحث في مسارات تأسيس نظرية معرفية إسلامية،“ مجلة العلوم السياسية/جامعة بغداد، ع: 60،
2020، ص42
الغربية“)9).
هناك من يتّهم تأريخ بدران للظاهرة بالقصور، وبأنها تناولت من عرفتهم واختلطت بهم، وتجاهلت))العديد من التجارب القيمة التي برزت في نفس الفترة في مناطق أخرى وعبَّرت أصدق تعبير عننموذج النسوية الإسلامية ومنها تجارب ظهرت في إندونيسيا وماليزيا ومصر(()01).
وفقًا لأماني صالح، تدين “المدرسة المصرية النسوية الإسلامية“ بظهورها الفكري والمؤسّسي للدكتورة منى أبو الفضل )1945-2008( أستاذة العلوم السياسية بجامعة القاهرة التي عادت إليها بعد مدة إقامة في الولايات المتحدة محملةً بقضيتين: الحاجة إلى مناقشة المعرفة النسوية الغربية، من وجهة نظر إسلامية، وتقديم وجهة نظر نقدية معمقة لها. وثانيًا، الحاجة الملحة إلى التفكير الأصيل في مشكلات المرأة المسلمة من وجهة نظر إسلامية تقوم فيها النساء بدور أساس وفاعل يؤسّس على الثوابت والأصول، ممثلة في القرآن والسنة الصحيحة، ولا يقبل ما دونهما من دون نقد ومناقشة.
ومن أجل ذلك أسست أبو الفضل مدرسة مصرية بدأت بـ“كرسي زهيرة عابدين للدراسات النسوية،“ وتطورت إلى “جمعية دراسات المرأة والحضارة“ التي اتسع إطارها ليضم نسويات مصريات، تتصالح نزعتهن النسوية مع ثقافتهن الإسلامية، مثل أميمة أبو بكر وغيرها)11).
غير أنّ الجهد النسائي في هذا الاتجاه نظريًا وتنظيميًا، سابق على اعتماد التسمية وانتشارها.
ففي 1988 ظهرت في ماليزيا منظمة غير حكومية تعمل للنهوض بحقوق المرأة المسلمة، باسم “أخوات في الإسلام ،“)Sisters in Islam( SIS أسّستها نساء مسلمات “اجتمعن لمعالجة الظلم الذي تواجهه المرأة في ظل نظام الشريعة )القانون الإسلامي(،“ ويرين أن قراءتهنّ النقدية للقرآن، من خلال منهج تأويلي، فتحت لهنّ ))عالمًا إسلاميًا يمكن التعرف عليه: عالم للنساء مليء بالحب والرحمة والمساواة والعدالة(()21).
في مطالع القرن الحادي والعشرين أصبح المصطلح موضوعًا لمؤتمرات دولية، ))كان أوّلها المؤتمر الدولي حول الاتجاه النسائي الإسلامي المنعقد في برشلونة في تشرين الأول/ أكتوبر 2005، تناولت أغلب موضوعاته الاتجاهات النسوية الإسلامية الداعية إلى المساواة بين الجنسين، ليعقبه مؤتمر باريس، في أيلول/ سبتمبر 2006 بشأن النسوية الإسلامية الذي عقدته لجنة الإسلام والعلمانية في
)9) السابق نفسه، ص44
)01) أماني صالح، “النسوية الإسلامية كحركة فكرية،“ موقع خطوة للتوثيق وللدراسات، 7102-3-30
)11) المصدر نفسه. و“جمعية دراسات المرأة والحضارة“ أُسست عام 1999، ويتركّز نشاطها في مجال الفكر والتوعية، وتسعى لتأسيس “منظور إسلامي للمعرفة النسوية.“)21) تعريف بالمنظمة في موقعها الرسمي، في الرابط: /https://sistersinislam.org/who-we-are
منظمة „اليونسكو(()31). وبالتوازي، كان عمل “أخوات في الإسلام” وغيرها من منظمات وناشطات وناشطين، يتطوّر على النهج نفسه باطِّراد، واتسع نطاق التعاون في ما بينهم، وصولًا إلى إعلان تشكيل “مساواة: حركة عالمية من أجل المساواة والعدل في الأسرة المسلمة” في شباط/ فبراير 9002 في كوالالمبور، بحضور أكثر من 250 امرأة ورجلًا من حوالى 50 دولة. و“مساواة“ هي ))حركة تعددية وتشمل الجميع، حيث تجمع معًا منظمات غير حكومية، ونشطاء، وأكاديميين، وقانونيين، وصناع سياسات، وقواعد شعبية من النساء والرجال من جميع أنحاء العالم((، وتؤمن ))بأن المساواة والعدل داخل الأسرة المسلمة ضروريان وممكنان(( وأنّ ))المساواة داخل الأسرة هي أساس المساواة في المجتمع. لذلك يجب أن تتمتع الأسر بمختلف أشكالها بمساحات من الأمن والسعادة، والتمكين المتساوي للجميع(()41).
تتالت المؤتمرات والملتقيات المُدْرَجة تحت لافتة “النسوية الإسلامية،“ وبعضها في مصر، حيث عُقد مؤتمر “قضايا المرأة: نحو اجتهاد إسلامي معاصر“ عام 2014 بمكتبة الإسكندرية، وانتهى بإعلان الإسكندرية حول “حقوق المرأة في الإسلام“ بدعم من “الأزهر.“ وفي نيسان/ أبريل 2015 عُقد الملتقى الأول لشبكة “شقائق“ بعنوان “النساء والمجال العام: رؤية إسلامية معاصرة،“ نظّمه “مركز نون لقضايا المرأة والأسرة“ بالتعاون مع مكتبة الإسكندرية والمعهد السويدي في المدينة. و“نون“ منظمة غير حكومية معنية “بتقديم رؤية إسلامية لقضايا المرأة والأسرة تنطلق من منظور وسطي يدعمه الأزهر“)51). وانتشرت أعمال رموز “النسوية الإسلامية“ من باحثات وناشطات، وسُطّرت أبحاث ورسائل جامعية في الردّ على أطروحاتهن، من وجهة نظر إسلامية.
بعضهم وسّع مفهوم “النسوية الإسلامية،“ ليدرج تحته كلّ جهد فكري للنساء يتناول التمييز ضد النساء والهيمنة الذكورية في التراث الإسلامي، بصرف النظر عن المناهج التي اتبعنها وجذرية أطروحاتها أو توفيقيتها، فضلًا عن غاياتها وأهدافها البحثية، سواء كانت تنتمي إلى أحد تنظيمات الإسلام السياسي، أم كانت تتبنى العلمانية، والتأسيس لحقوق النساء استنادًا إلى قيم الحداثة لا المرجعيات الدينية)61). يبدو ذلك التعميم في غير محلّه، من منظور جوهر “النسوية الإسلامية،” القائم على افتراض إمكان تحقيق “العدل والمساواة للمرأة المسلمة،” استنادًا إلى نصوص الإسلام
)31) سناء كاظم كاطع، “النسوية الإسلامية بحث في مسارات تأسيس نظرية معرفية إسلامية،“ ص44)41) تعريف بالحركة في موقعها الرسمي، في الرابط:http://arabic.musawah.org/about-musawah
)51) منى علي علّام، “النسوية الإسلامية في مصر: تحديات عديدة أمام تيار جديد،“ السفير العربي، 5102-5-17
)61) يُنظر، على سبيل المثال لا الحصر، مريام كوك، النساء يطالبن بإرث الإسلام، رندة أبو بكر )مترجمةً(، ط1 )القاهرة: المركز القومي للترجمة،
2015( ص107، إذ شملت كوك كلًا من الإخوانية زينب الغزالي، والعلمانية نوال السعداوي تحت مسمّى “النسويات الإسلاميات،“ وهما ليستا كذلك.
نفسها، بعد تفنيد التفاسير الذكورية السائدة في الفقه الإسلامي.
ومن الأسماء البارزة في “النسوية الإسلامية:“ أماني صالح )مصر(، أسماء المرابط )المغرب(، أسماءبرلاس )باكستان(، حُسن عبّود )لبنان(، آمنة ودود )الولايات المتحدة الأميركية(، زينة أنور )ماليزيا(،زيبا مير حسيني )إيران.(
. معنى “النسوية الإسلامية“ ومنهجها
وفقًا للباحثة اللبنانية حُسن عبود المتخصصة في قضايا المرأة وتجديد الفكر الإسلامي المعاصر، فإن “النسوية الإسلامية“ هي ))جهد علمي تقوم به مجموعة من النساء المسلمات في العالم العربي لقراءة النصوص الدينية من القرآن والحديث، وربط الأحكام الفقهية الجزئية بالمبادئ الإسلامية الكلية، ونقد التراث المتحيز ضد المرأة وحقوقها الإنسانية، بهدف تغيير أنماط الفكر الذكوري التقليدي، وتجديد الفكر الإسلامي المعاصر وتطويره(()71).
وتعرّف أماني صالح “النسوية الإسلامية“ بأنها ))الجهد الفكري والأكاديمي والحركي الذي يسعى إلى تمكين المرأة انطلاقًا من المرجعيات الإسلامية، وباستخدام المعايير والمفاهيم والمنهجيات الفكرية والحركية المستمدة من تلك المرجعيات وتوظيفها إلى جانب غيرها((، وهي ))حركة فكرية وأكاديمية واجتماعية يقوم بها رجال ونساء على حد سواء، تهدف إلى تمكين النساء، وهو هدف يبدأ من رفع الظلم وكل مظاهر الاستضعاف والتهميش والإقصاء والعزل والقهر وينتهي بتدعيم قيم الحرية والعدالة والمساواة في العلاقة بين الجنسين.. والمنطلقات والمرجعيات والمفاهيم الأساسية لهذا الفكر وتلك الحركة، ذات أصول إسلامية، وتستند إلى المرجعيات الإسلامية الأصلية المتمثلة في القرآن والسنة الثابتة. ولذلك فإن المناهج الأصولية لعلوم الدين تحتل أهمية بارزة جنبًا إلى جنب مع المنهجيات الحديثة(()81).
تعتمد “النسوية الإسلامية“ في دراسة موضوعاتها الأساس على مناهج عدة، غير أنّ منهجها الأساس هو إعادة تأويل النصوص الدينية، ولذلك توصف أيضًا بـ“النسوية التأويلية،“ حيث تبذل جهدًا كبيرًا في تأويل المصادر الإسلامية في ضوء مقاصد الشريعة العامة بحثًا عمّا ينصف المرأة، ويردّ على التأويلات الإسلامية الأخرى المستندة إلى المصادر نفسها في تكريس الوضع الدوني للمرأة. من ذلك مثلًا قول زينة أنور أنّ ))الآيات القرآنية الأربع )البقرة، الآية222 والآية 228، وسورة النساء الآية2
)71) ميسون ضيف الله الدبوبي، “النسوية الإسلامية في العالم العربي المعاصر والمرجعية الإسلامية،“ المجلة الأردنية في الدراسات الإسلامية، ع:3، 2018. ص112
)81) أميمة أبو بكر )تحرير(، النسوية والمنظور الإسلامي، ص10
والآية 34(( التي تتحدث صراحة عن سلطة الرجال على النساء داخل الأسرة وعدم المساواة بينهم في المجتمع، ينبغي فهمها في ضوء المبادئ الإسلامية الأوسع وأغراض الشريعة ومقاصدها، لا بمعزل عنها(()91).
فإنّ الدافع الرئيس وراء توجهات البحث “النسوي الإسلامي“ يتمثل في ))تفعيل المبادئ والمقاصد العليا لإنتاج معرفة نسوية في نطاق الإسلام وبه، معرفة تنقض الأبوية السلطوية والتحيز في خطابات وتفسيرات التراث ثم تعيد بناء رؤية إصلاحية جديدة تلبي احتياجات النساء داخل مجتمعاتهن وثقافاتهن(()02).
. بعض مسائل “النسوية الإسلامية“ الأساس
من المسائل الأساس التي بحثت فيها “النسوية الإسلامية“ مفهوما “القوامة“ و“الولاية،“ فعملت على إعادة تأويل ما يتصّل بهما من الآيات القرآنية لتفنيد “التفسيرات الذكورية“ التي جعلت من هذه الآيات سندًا للتمييز ضدّ المرأة. والطرح الرئيس ينطلق من أن هذين المفهومين ))قد أسيء فهمهما فأصبحا يشيران إلى وضع النساء تحت سلطة الرجال، مما أدى إلى جعل المفهومين حجر أساس بناء السلطوية الأبوية في الفقه الإسلامي(()12). وتأتي “أهمية تطوير تلك المعرفة الجديدة ومتعدّدة الأبعاد“ لهذين المفهومين، ))بوصفها مشروعًا سياسيًا ومعرفيًا للنسوة المسلمات اللاتي يشتبكن مع الدين في بحثهنّ عن المساواة للنساء والعدالة لهنّ(()22).
وتُشغَل “النسوية الإسلامية“ بحصول المرأة على “العدل والمساواة من داخل إطار الإسلام،“ واستطرادًا “المساواة والعدل في الأسرة المسلمة،“ وهو ما اتخذته حركة “مساواة“ شعارًا لها، وأصدرت في هذا الشأن كتابًا مرجعيًا تضمّن أوراقًا بحثية تسعى ))إلى فهم نشأة قانون الأسرة الإسلامي، وكيف تم بناؤه في تراث الفقه الأولي، وكيف يمكن لثروة المصادر في الفقه وفي الآيات القرآنية التي تتحدث عن العدل، والتعاطف، والمساواة أن تدعم إصلاحًا يفسي إلى علاقات أكثر مساواة في الأسرة.
والأوراق تثبت أن قوانين الأسرة الإسلامية التمييزية الحالية ليست إلهية، بل وضعها بشر في سياقات
)91) زينة أنور )محررة(، نريد المساواة والعدل في الأسرة المسلمة، )فريق ترجمة(، ط1 )ماليزيا: أخوات في الإسلام - مساواة، 2011(. ص29
)02) أميمة أبو بكر )محررة(، النسوية والمنظور الإسلامي، ص4
)12) مجموعة مؤلفات ومحرّرات، القوامة في التراث الإسلامي قراءات بديلة، رندة أبو بكر )مترجمةً(، ط 1 )لندن: وان ورلد، 2016(. ص27.
والكتاب هو نتاج لمشروع قامت به “مساواة: حركة عالمية من أجل المساواة والعدل في الأسرة المسلمة.“)22) المرجع نفسه، ص31
جتماعية – سياسية معينة(()2)3.
ولقضية النوع “الجندر” حصّة بارزة في دراسات “النسوية الإسلامية،“ سواء في سياق ربطها بماسبق، أم في تناولها والبحث فيها بصورة مستقلة، مثل ما في أعمال أماني صالح التي وجدت ))أن قضيةالنوع ليست من القضايا المغيبة أو الدخيلة أو حتى تلك التي يحتاج التعرف على موقف القرآن منها إلى نوع من الجهد أو القياس، بل هي قضية واضحة جلية في التناول القرآني وإن تغير المصطلح القرآني في تناولها عن مصطلحنا الدارج، ويتميز الطرح القرآني في تناول قضية النوع بمعالجتها عند أبعاد ومستويات متعددة لم يُعنَ بها الفكر الاجتماعي المعاصر حتى في رافده النسوي النافذ، والذي ترجع إليه أفكار جندرة المعرفة والفكر(()42). وقد أشارت إلى ))قضية مهمة في المنهج مؤداها أن قراءة وفهم قضية النوع – وأي قضية أخرى- في إطار القرآن لا ينبغي أن تتم في إطار مقيد باقترابات ومفاهيم النوع وإنما في إطار مفاهيم وإبستومولوجية القرآن ذاته التي تتجاوز النوع وغيره من القضايا الفرعية إلى منظومة أشمل تقودها مفاهيم عليا كالتوحيد والإيمان والعدل والحق(()52).
إضافة إلى ما سبق اجتهدت “نسويات إسلاميات“ في اقتراح قراءات مختلفة للقرآن، على نحو ما فعلت آمنة ودود في كتابها “القرآن والمرأة: إعادة قراءة النص القرآني من منظور نسائي،“ وفيه أكّدت تمسّكها بالقرآن، ))فليس النص هو ما أعاق تقدّم المرأة، وإنما أعاقتها تفاسير ذلك النص التي تم الاهتمام بها أكثر من النص القرآني ذاته(()62). وكذلك أسماء المرابط في “القرآن والنساء: قراءة للتحرر”، رأت فيه أن ))رسالة القرآن الروحية هي بمثابة تذكير، تخلص وظيفته في كونها توقظ في الكائن البشري الجانب النبيل في ذاكرته ووعيه، ليظل في قرب شديد بربه واتصال دائم مع خالقه. ومن خلال هذا الذكر يحصل الاطمئنان الباطني بالعدل الإلهي. ومن هذا المنظور فليس هناك أي سيء في النص القرآني يمكن أن يبرر آو يدافع عن أي نوع من أنواع الميز ضد النساء(()2)7.
)32) زينة أنور )محررة(، نريد المساواة والعدل في الأسرة المسلمة، ص12
)42) أماني صالح، “قضية النوع في القرآن: منظومة الزوجية بين قطبي الجندر والقوامة،“ مجلة جمعية دراسات المرأة والحضارة، القاهرة، ع:
3، تشرين الأول/ أكتوبر 2002، ص21
)52) المرجع نفسه، ص34
)62) آمنة ودود، القرآن والمرأة: إعادة قراءة النص القرآني من منظور نسائي، سامية عدنان )مترجمةً(، ط1 )القاهرة: مكتبة مدبولي، 6002) ص13. وآمنة ودود كانت مسيحية قبل أن تعتنق الإسلام في العشرين من عمرها، وقد أثارت جدلًا واسعًا حين أمّت صلاةً مختلطة )رجال ونساء( في نيويورك عام 2005.
)72) أسماء المرابط، القرآن والنساء: قراءة للتحرر، محمد الفران )مترجمًا( 2010، )نسخة إلكترونية متاحة على الموقع الرسمي للكاتبة.( ص7
)بتصرّف.(
رابعًا: نقد “النسوية الإسلامية“: بين النظام الأبوي وإشكالية التأويل
سبقت الإشارة إلى انطلاق “النسوية الإسلامية“ من فرضية تأسيسية تجد أنّ مشكلة المرأة المسلمة ليست مع دين الإسلام ونصوصه الأصلية، لا سيما القرآن، وإنما نشأت من التفسيرات الأبوية للنصوص. وإذ تشير آمنة ودود إلى أن “الأبوية )البطريركية( أقدم من الإسلام ومن حياة النبي محمد،“ وتقرّ بأنّ الإسلام، شأن الأديان الأخرى كلها، ))تعامل مع الأعراف الأبوية القائمة كأمور مسلم بها(( )82)، ترى، في الآن نفسه، ))أن القرآن قدم ما يمكن أن نفهمه بأفضل شكل كمسار ينتقل بالمؤمنين كأشخاص، وكأعضاء في نظام اجتماعي عادل، إلى ما يتجاوز هذه المنظومة الأبوية(()92). وكذا الحال عند أسماء المرابط، بقولها: ))رغم أن القرآن احترم النظام الاجتماعي السائد والبدائي في رؤيته الاجتماعية للمرأة، فإنه لم يسمح بسوء معاملة النساء. لقد كان هذا الموقف انتقاليًا يهيئ الظروف للتغير التدريجي في العقليات(()03).
فهل كان الإسلام تطوّرًا في اتجاه تجاوز النظام الأبوي عمومًا، وفي الموقف من المرأة بصورة خاصة لتُبنى عليه حقوقها ويؤخذ منه ما يرفع من شأنها، أم إنّه امتدادٌ لذلك النظام، وتكريس له، ومن ثمّ للقيّم التي تميّز ضدّ النساء؟
وبصرف النظر عن صلة الإسلام بالنظام الأبوي، هل تنفع محاولات “النسوية الإسلامية“ في إعادة تأويل النص الديني لتجاوز “التفاسير الذكورية“ التمييزية ضد المرأة التي لم تضعف من هيمنتها ورسوخها محاولات من سلكوا هذا المسلك من قبل؟
. الإسلام والنظام الأبوي
في المراحل السابقة على ظهور الديانات التوحيدية وانتشارها كانت العبادات والطقوس الدينية الأكثر شيوعًا تدور حول الآلهة المؤنثة، وتدريجيًا، تراجع دور الآلهة الأنثى وسلطتها لصالح إله ذكر، وهو تحوّل رافق تشكّل النظام الأبوي. ووفقًأ لفرضية غيردا ليرنر التي بحثت معمّقًا في نشأة النظام الأبوي في الشرق القديم خصوصًا، فإنّ هذا الانتقال ارتبط بتطوّر الزراعة الذي تزامن مع نزعة عسكريّة متزايدة، وأحدث تغييرات رئيسة في المعتقدات والرموز الدينية، فكان ))خفض مرتبة شخصية الإلهة الأم وصعود وهيمنة شريكها/ابنها الذكر في ما بعد؛ ثمّ اندماجه مع إله العاصفة
)82) زينة أنور )محررة(، نريد المساواة والعدل في الأسرة المسلمة، ص103
)92) السابق نفسه.
)03) أسماء المرابط، القرآن والنساء، ص221
وتحوّلهما إلى إله خالق ذكر، يرأس بانثيون الآلهة والإلهات. وأينما حصلت تغيّرات كهذه، كانت قوةالخلق والخصب تُنقل من الإلهة إلى الإله(()13)، وهو ما ورثته الديانات التوحيدية لاحقًا.
وفي مناطق العراق وإيران، حيث كان المجتمع الساساني الذي انتصر عليه المسلمون، وورثوا كثيرًامن ثقافته ومؤسساته، كانت “الزرادشتية“ واسعة الانتشار، حيث ازدادت قوتها وتأثيرها في العصر الساساني لتصبح الدين الرسمي للدولة. وكان النظام الأبوي الذي أقرّته تلك المؤسسة الدينية يقوم على مطالبة المرأة بالطاعة التامة لزوجها)23). أما المناطق التي شملتها غزوات المسلمين، الواقعة تحت سيادة الكنيسة المسيحية، فكانت قد قنّنت إلى حد كبير التحيّز ضد المرأة، وبرّرته، اعتمادًا على قصص الكتاب المقدس التي اعترف بها الإسلام علانية، وأقرها بصورة غير مباشرة بوصفها صادرة عن الوحي الإلهي. وهكذا استوعب الدين الجديد تلقائيًا ذلك التحيّز ضد المرأة الذي كان قائمًا بالفعل في صورة مقدّسة، ليصبح جزءًا من عالمه الاجتماعي الذي ما لبث أن اتخذ بدوره صيغة كتابية مقدسة)33).
ومع أن الإسلام كان دينًا موحى به حديثًا، والقرآن حرص على تقديمه بوصفه تصويبًا لأديان سابقة مشوّهة، ظلّ المسلمون يشاطرون أسلافهم فيضًا من التقاليد. والحضارة الجديدة التي اتسمت بالإبداع والابتكار والتميّز، بقيت، مع ذلك، استمرارًا لجملة البُنى المؤسسية والصيغ الثقافية العائدة إلى حضارات الشرق الأوسط السابقة)43)، وهي حضارات أبويّة بامتياز، وفق الدراسات التاريخية.
لقد سعى الإسلام للتخفيف من مساوئ المجمعات العربية القديمة، لكن من دون الخروج منها وعليها نهائيًا وجذريًا؛ وكانت تلك المساوئ الطاغية تتعلق بالمرأة والأسرة والرّق والحياة الاقتصادية)53).
وإذ لاحظ خليل أحمد خليل ))ظهور اتجاه مبدئي في الإسلام يرمي إلى تقنين أوضاع المرأة العربية تقنينًا دينيًا، ويهدف إلى الحد من اتجاهات المغالاة والتطرف )الوأد، السبي الخ( التي تتحداها اجتماعيًا وتاريخيًا(()63)، إلا أنّ ذلك لم يكن على نحو ما طاب لآمنة ودود فهمه، ))كمسار ينتقل بالمؤمنين كأشخاص، وكأعضاء في نظام اجتماعي عادل، إلى ما يتجاوز هذه المنظومة الأبوية(()73)،
)13) غيردا ليرنر، نشأة النظام الأبوي، ص282
)23) ليلى أحمد، المرأة والجنوسة في الإسلام، منى إبراهيم وهالة كمال )مترجمَتين(، ط1 )القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 1999(، ص24
)33) المرجع السابق نفسه، ص43
)43) أيرا م. لابيدس، تاريخ المجتمعات الإسلامية، المجلّد الأول، فاضل جتكر )مترجمًا( ط2 )بيروت: دار الكتاب العربي، 2011(. ص42،41
)بتصرّف(
)53) خليل أحمد خليل، المرأة العربية وقضايا التغيير بحث اجتماعي في تاريخ القهر النسائي، ط2 )بيروت: دار الطليعة، 1982(. ص48
)63) المرجع السابق، ص47
)73) زينة أنور )محررة(، نريد المساواة والعدل في الأسرة المسلمة، ص103.
وإنما لاعتبارات تتعلّق ببناء النظام الجديد وتكريس سلطته على الأسس الأبوية ذاتها. فالإسلام عبر“التقنين الديني“ الخاص بالمرأة والمعبَّر عنه قرآنيًا، تعامل بصورة انتقائية مع أنماط العلاقات التي كانت معروفةً قبله، فأبطل بعضها، ليقرّ بعضها الآخر الأكثر أبويّة والأشد تحكّمًا بالمرأة وتقييدًا لها.
لقد عرفت الجزيرة العربية صيغًا مختلفة من عقود الزواج، القائمة على اقتران امرأة واحدة بعدد من الرجال على درجات متفاوتة من الدوام والمسؤولية عن الأبوة، بما فيها العقود الموقتة، جنبًا إلى جنب مع العشيرة النَسَبية، فلم يكن ثمة أي نمط موحّد مقبول على نحو شامل)83). و))الزواج الذي أقرّه ومارسه محمد يشتمل على تعدّد الزوجات وزواج البنات في التاسعة أو العاشرة من العمر، كما أقرّت الآيات القرآنية بحقوق الرجال في التمتع بعلاقات جنسية مع الجواري، وحق الطلاق بمحض إرادة الرجل(()93). لقد حاول القرآن تعزيز العشيرة الأبوية وتدعيمها. صار الطلاق مكروهًا على الرغم من بقائه سهلًا نسبيًا، ولم يعد زواج امرأة واحدة بعدد من الرجال ممكنًا لإفضائه إلى نسف استقرار العائلة الأبوية. وبما أن العائلة متحدرة عبر ورثتها الذكور، فإن القرآن جاء متضمّنًا قواعد ضامنة لمعرفة الأبوّة)04).
وبحسب فاطمة المرنيسي ))هدفت البنية الأسروية الإسلامية الجديدة التي شكّلت ثورة على تقاليد الجزيرة العربية ما قبل الإسلام، إلى إقامة بنية أسروية ترتكز على سيادة الرجل وانفراده بالمبادرة فيما يخصّ الزواج والطلاق. فالتعدّد وتحريم ارتكاب الزنى وضمانات الأبوّة، كلها مؤسسات ساهمت في تسهيل الانتقال من البنية القديمة التي كانت ترتكز فيها الأسرة على نوع من حق المرأة في تقرير مصيرها، إلى البنية الجديدة التي ترتكز فيها الأسرة على مبدأ سيادة الرجل(()14).
والنُظُم السابقة للإسلام ))لم تولِ أهمية للأبوة البيولوجية، وكان من الصعب إخضاع ممارسة
)83) أيرا م. لابيدس، تاريخ المجتمعات الإسلامية، ص87. وعن عائشةُ: ))أنَّ النِّكاحَ كانَ في الجاهليَّةِ كانَ على أربعةِ أنحاءٍ. فنكاحٌ منها نكاحُ النَّاسِ اليومَ: يخطبُ الرَّجلُ إلى الرَّجلِ وليَّتَهُ أو ابنته، فيُصدِقُها ثمَّ ينكحُها. ونِكَاحٌ آخرُ: كانَ الرَّجلُ يقولُ لامرأتِهِ إذا طهُرَت من طمثِها: أرسلي إلى فلانٍ فاستبضعي منهُ، ويعتزُلُها زوجُها ولا يمسُّها أبدًا، حتَّى يتبيَّنَ حملُها من ذلكَ الرَّجلِ الَّذي تستبضعُ منهُ، فإذا تبيَّنَ حملُها أصابَها زوجُها إذا أحبَّ، وإنَّما يفعلُ ذلكَ رَغبةً في نجابةِ الولدِ فكانَ هذا النِّكاحُ يسمَّى نكاحَ الَاستبضاعِ. ونِكَاحٌ آخرُ يجتمعُ الرَّهطُ ما دونَ العشرةِ فيَدخُلُونَ على المرأةِ، كَلُّهم يصيبُها، فإذا حَمَلتْ وَوَضََعَت، ومرَّ عَلََيهَا ليالٍ بعدَ أن تضَعَ حَملَهَا، أرسلَت إليهم، فلَم يَستَطِعْ رَجلٌ منهُم أن يمتنِعَ، حتَّى يَجتَمِعُوا عِندَها، تَقولُ لهُم:
قَد عرفتُمُ الَّذي كانَ مِن أمرِكم وقد ولدتُ، فهوَ ابنُكَ يا فلانُ، تُسمِّي من أحبَّت باسمِهِ فيَلحقُ بهِ ولدُها، لا يستطيع أن يمتَنِعَ بِهِ الرّجُلُ. ونِكَاحٌ رابعٌ يجتمعُ النَّاسُ الكثيرُ، فيدخلونَ على المرأةِ، لاَ تمتنعُ مِمَّن جاءها، وهنَّ البغايا، كنَّ ينصبنَ على أبوابِهنَّ رايَاتٍ يكنَّ علمًا، فمن أرادهنَّ دخلَ عليهنَّ، فإذا حَمَلَت إحداهنّ ووضعت حَملَها جَمَعُوا لهَا، ودعوا لهمُ القَافَةَ، ثمَّ ألحَقُوا وَلدَهَا بالَّذي يَرَوْنَ، فالْتَاطهُ بِهِ، وَدُعيَ ابنَهُ، لا يَمتَنِعُ مِن ذلكَ، فلمَّا بُعِثَ محمَّدٌ بِالحَقّ، هدمَ نِكَاحَ الجاهليَّةِ كلَّهُ إلَّا نِكاحَ الناسِ اليَوْمَ((، صحيح البخاري، رائد صبري )محققًا(، ط1 )الرياض: دار طويق، 2008(.
حديث رقم 5127، ص850.
)93) ليلى أحمد، ليلى أحمد، المرأة والجنوسة في الإسلام، ص67
)04) أيرا م. لابيدس، تاريخ المجتمعات الإسلامية، ص88
)14) فاطمة المرنيسي، ما وراء الحجاب الجنس كهندسة اجتماعية، فاطمة الزهراء أزرويل )مترجمةً(، ط1 )الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي،
2005(، ص54
المرأة في المجال الجنسي للمراقبة. اجتاز الإسلام هذا العائق عن طريق تحريم أغلب الممارسات الجنسيةالسابقة باعتبارها زنىً، وفرض مراقبة صارمة على الأبوّة التي جعلت منها فترة العدّة مؤسسة قائمةبذاتها. ويبدو أن العدّة أفضل دليل على اللامبالاة الواضحة قبل الإسلام بمسألة الأبوة البيولوجية،وكذلك على القيود التي فرضها الإسلام بخصوص حقوق المرأة الجنسية، بما أنه لا ينص على فترة مماثلة بالنسبة للرجال. وتدلّ مؤسسة العدّة على أن الهوس بسلب المرأة كل سلطة في تحديد الأبوة، لا يمكن أن يتحقق إلا بواسطتها(()24). فالسيطرة الجنسية على النساء سمة جوهرية للنظام الأبوي، والقوننة الجنسية لهنّ أساس التشكّل الطبقيّ)34). ومن جهة ثانية، ))أينما وُجِدَت الأسرة الأبوية فإن النظام الأبوي يولد من جديد باستمرار، حتى حين تُلغى العلاقات الأبوية في أجزاء أخرى من المجتمع(()44). وكذا حال “البنى الأبوية المستحدثة،” بعبارة هشام شرابي، فالعائلة الأبوية مهمة ))لفهم البنى الأبوية المستحدثة في علاقاتها الداخلية الأساسية، وفي المقام الأول في علاقات السلطة والهيمنة والتبعية، وهذه كلها تعكس بنية العلاقات الاجتماعية وتنعكس بها(()54).
وبحسب ما مرّ ذكره، الإجراءات والتعاليم القرآنية الخاصة بالنساء، كانت عنصرًا أساسًا وحاسمًا في عملية بناء النظام الجديد وتكريس سلطته على الأسس الأبوية ذاتها. لقد ))كان وجود الدولة الأبوية القائمة على التوحيد كنظام اجتماعي إسلامي، رهينًا بمدى خضوع القبيلة وولائها للأمة. ولذا كانت الأسرة في هذا اُلنظام الخلية الرئيسية المؤهلة أكثر من القبيلة لضمان تنشئة المسلم اُلاجتماعية، كما أن هذه الأسرة التي تمارس رقابة شديدة على المرأة كانت ضرورية لفرض فكرة الأمّة كمفهوم وممارسة(()64).
. إشكالية التأويل
تتساءل أسماء المرابط ))كيف يمكن أن نبقى مكتوفي الأيدي نجترّ التعاليق والشروح القديمة ونهمل المقاصد الحقيقية للنص؟(())74، وتؤكّد زيبا مير حسيني التمييزَ بين “الشريعة“ بما هي “المشيئة
)24) المصدر السابق نفسه، ص73
)34) غيردا ليرنر، نشأة النظام الأبوي، ص273
)44) المرجع السابق نفسه، ص452
)54) هشام شرابي، النظام الأبوي وإشكالية تخلّف المجتمع العربي، محمود شريح )مترجمًا(، ط2 )بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية،
1993(، ص60
)64) فاطمة المرنيسي، ما وراء الحجاب الجنس كهندسة اجتماعية، ص74
)74) أسماء المرابط، القرآن والنساء، ص11
الإلهية في مجملها كما أوحى بها للنبي محمد،“ والفقه، الذي يعني “الفهم،“ ولا يعدو كونه ))الفهمالبشري للإرادة الإلهية، ما نستطيع فهمه من الشريعة في هذه الدنيا على المستوى القانوني(()84).
الكلام عن “المقاصد الحقيقية للنص،“ و“المشيئة الإلهية،“ ومن ثم “المعنى الحقيقي للقرآن،“ سواء صدر عن “نسويات إسلاميات“ أم فقهاء “التفاسير الذكورية،“ يذكًر بما كتبه محمد أركون بعنوان “معنى القرآن:“ ))لن نرتكب تلك الحماقة ونزعم أننا اكتشفنا - أخيرًا! – المعنى الحقيقي للقرآن(()94)، وكذلك إشارته إلى ))مزعم الفقهاء المفرط وغرورهم المتبجّح الذي يوهمهم أنهم قادرون على الاتصال المباشر بكلام الله(( )05)، بينما هم ))لا يتواصلون معه مباشرة وإنما بوساطة لغة بشرية هي اللغة العربية. أما الاتصال بكلام الله نفسه دون وساطة، فهو مستحيل على أي مخلوق على وجه الأرض(( )15)، وإلى الوهم الثاني، في اعتقادهم ))أنهم قادرون على الفهم الصحيح المطابق لمقاصد الله العليا ثم توضيحها وبلورتها في القانون الديني، ثم تثبيت القانون الإلهي أو المؤلّه الخاص بالأحكام الشرعية(()25).
بحسب علي حرب ))التأويل يعني أن الحقيقة لم تُقل مرة واحدة، وأن كل تأويل هو إعادة تأوّل..
فالنص لا يتوقّف عن كونه محلًا لتوليد المعاني واستنباط الدلالات. ولا مجال لأحد أن يقبض على حقيقته(()35). و))المعنى إذ يُستعاد لا يتكرر وإنما يٌعاد اكتشافه ويُتأوّل من جديد. ولذا كل لفظ يتحول بواسطة المجاز إلى تاريخ من التفسير وإلى طبقات متراكمة من التأويلات، ويخلق بالتالي عالمًا من الإيحاءات لا نهاية له(()45).
هذا يدفع إلى ترجيح الرأي القائل بأنّ النص القرآني، خلافًا لما يرمي له المؤوّلون والباحثون عن اشتقاق نُظم قانونية ومعرفية منه، هو ))كلام تعبُّديٌّ خالص، لكنه في المستوى المعرفي يصبح صعب المراس، غارقًا في الالتباس، وقابلًا بالمقابل لكل توصيف أو توظيف في اتجاه نبتغي أو لا نبتغي. إن ابتغينا الرّحمة والتسامح وجدنا آيات تدعو إلى ذلك، وإن قصدنا العنف والقتال ألفينا آيات تأمر بذلك. وفي زحمة آيات العنف وآيات الرّحمة والغفران، تمنحنا الكثير من العبارات إمكانية تقويلها
)84) زينة أنور )محررة(، نريد المساواة والعدل في الأسرة المسلمة، ص37.
)94) محمد أركون، قراءات في القرآن، هاشم صالح )مترجمًا(، ط1 )بيروت: دار الساقي، 2017(، ص87.
)05) المرجع السابق نفسه، ص235
)15) السابق نفسه.
)25) المرجع السابق نفسه، ص236
)35) علي حرب، التأويل والحقيقة قراءات تأويلية في الثقافة العربية، )بيروت: دار التنوير، 2007(. ص17
)45) المرجع السابق نفسه، ص28
ما لا تقوله إملاءً أو إيماءً(()55). وهذا يؤكّد أيضًأ أنّ ))كل قارئ يعيد كتابة النص بواسطة شبكةإدراكه الحسي والمبادئ التي توجه تأويله وتفسيره لهذا النص. وكل قارئ يقرأ النص على طريقته ووفقثقافته وإمكاناته.(( ومن ثم ))طرح علينا كل مشكلة إسقاط المسلمين المعاصرين أفكارهم ومفاهيمهموتصوراتهم الحالية على النص القرآني، وهم بذلك يقتلعونه من جذوره ويفصلونه باستمرار عن بيئته الأصلية الأولية وآلياته الخصوصية الذاتية لإنتاج المعنى(()65).
إن أساليب اللغة البلاغية، من الاستعارة والكناية والتشبيه، تتيح للمتأوّلات والمتأوّلين الاستدلال على ما لا نهاية له من قيمٍ ومعانٍ، ونسبها إلى “المقاصد الحقيقية للنص.“ لكن هذا غير وارد مع المصدر الإسلامي المقدّس الثاني )السنّة()75)، و“الأحاديث الصحيحة،“ المبنية بألفاظ واضحة مباشرة، لا تحتمل كثيرًا أو قليلًا من التأويل، وتصرّح بأحكام وقيم في غير صالح المرأة، فتحدّ من استقلالها وحرّيتها، وتقلّل من مكانتها)85)، خلافًا لما تقول به “النسوية الإسلامية“ بأنّ المشكلة في “التفاسير الذكورية“ لا النصوص الأصلية. ولن يكون من المجدي تجاهل السنّة لمن يبني مشروعه المعرفي والحقوقي على “المصادر الإسلامية،“ لأن الإسلام ليس القرآن فحسب، و))سيرة الرسول ليست مجرد وثيقة تاريخية، ولكنها المصدر الثاني بعد القرآن، منها يستمد المسلم التعاليم التي تشكّل حياته وتوجّهها. وهي مبعث قدوة يهتدي بها، في إيجاد الحلول للمشاكل اليومية التي قد تعترضه وفقًا للمثل الإسلامي الأعلى(()95).
مع الإقرار بأن النبي ))لم يكن متلقيًا للوحي المقدّس كما يحتويه القرآن فحسب، بل كان – ولا يزال – إنسانًا كاملًا يوصف أنه “تجسيد للقرآن((”)06)، تشير “النسوية الإسلامية“ إلى ))أسباب كثيرة قد تكون أدّت إلى إهمال الحركات النسوية الإسلامية التقدمية للأحاديث النبوية(( )16) ولا يخلو من تناقض وصف النبي بأنه “تجسيد للقرآن،“ ثم القول: ))لعلّ باستطاعتنا أن نحرر القرآن، الذي يمثل كلام الله الحرفي السرمدي الذي أنزله وسط سياق تاريخي واجتماعي أبوي، من القيود اللغوية والسياقية الأبوية التي تحكم تناوله. ولكن ليس بوسعنا، تحرير النبي من السياق الذي كان
)55) سعيد ناشيد، الحداثة والقرآن، ط1 )بيروت: دار التنوير، 2015(، ص86.
)65) محمد أركون، قراءات في القرآن، ص22
)75) مع الإشارة إلى أن باحثات “النسوية الإسلامية“ وإن أجمعن على السنّة مصدرًا إسلاميًا أصليًا، يختلفن في شدّة التمسّك بمرجعيتها أو صدقيتها، والاهتمام بمناقشة “الأحاديث الصحيحة“ المشكلة، ومحاولة تأويلها، أو تجاهلها.
)85) يضيق المجال عن ذكر الأمثلة، وهي كثيرة في صحيحي البخاري ومسلم.
)95) فاطمة المرنيسي، ما وراء الحجاب الجنس كهندسة اجتماعية، ص14
)06) مجموعة مؤلفات ومحرّرات، القوامة في التراث الإسلامي قراءات بديلة، ص125.
)16) السابق نفسه.
يعيش فيه(()26)، وما يلي ذلك من شرح لمواقف النبي، عبر فحص نظرتين له ))بوصفه رجلًا مساواتيًابالأساس، وبوصفه رجلًا يحمل القيم الأبوية، فسوف نجده في الحالتين منخرطًا بالقدر نفسه في أفعال تدعم السلطة الأبوية وأفعال تزعزعها(()36).
على الرغم من ذلك، سيبقى كثير من المسائل لن تجدي معها الحيل التأويلية نفعًا، فالنصّ المقدّس لن يساعد التنظيراتِ “النسوية الإسلامية“ على إيجاد حلّ لها، من مثل مفهوم النوع الاجتماعي )الجندر(، وهو ركنٌ أساس من أركان الفكر النسوي، ولم يعد مقتصرًا على ثنائية )ذكر/ أنثى( أو )رجل/ امرأة(، وأصبح يشمل هويات جندرية عدة)46)، في حين إن النظام الإلهيّ الجندري على نحو ما هو مبيّنٌ في القرآن، ))ينبني على ثنائية صريحة ولا يقبل جنسًا ثالثًا(()56).
ونفي “النوع“ أو “الذكورة“ عن إله القرآن، في سياق نفي الأصل الأبوي/ الذكوري للدين الإسلامي، وإنكاره، والقول إنّ ))الذات الإلهية في المنظور الإسلامي التوحيدي تختص بالتسامي عن النوعية(()66)، يصطدم بلغة تذكيرٍ في الخطاب والصفات لا لبس فيها، تُعزّز ))من خلال الآيات التي تقابل بين الله من ناحية والآلهة الأنثوية القديمة من ناحية أخرى، وهي آلهة كانت هامّة في الهيكل الإلهيّ العربي ما قبل الإسلامي: )...ومن يشرك بالله فقد ضلّ ضلالًا بعيدا. إنْ يدعون من دونه إلا إناثًا وإن يدعون إلا شيطانًا مريدا( ]النساء 116-117[(()76).
خامسًا: خاتمة
المآخذ على “النسوية الإسلامية“ لا تقتصر على ضعف تماسك منطلقها الذي يبرّئ الإسلام من شبهة الأبوية والذكورية، ليربطها بالتفاسير لا النصوص، ولا على مشكل المنهج التأويلي، وإنّما تمتدّ لتشمل ما تواجهه من ردود ذات أرضية إسلامية صلبة، رافضة مشروعَها ومشروعيتَها.
والمفارقة أنّ كثيرًا من الانتقادات الموجّهة لـ“النسوية الإسلامية،“ من وجهة نظر إسلامية، صدرت
)26) المرجع السابق نفسه، ص126
)36) المصدر نفسه، ص127
)46) المقصود مجتمع الميم ،)LGBTI( الذي يعني الأقليات الجنسية والجندرية المختلفة، ويضمّ المثليات والمثليين وثتائيي الجنس، والمتحولين والمتحولات.
)56) رجاء بن سلامة، بنيان الفحولة أبحاث في المذكر والمؤنث، ط1 )دمشق: دار بترا للنشر والتوزيع، 2005(، ص15.
)66) أماني صالح، قضية النوع في القرآن، ص21.
)76) رجاء بن سلامة، بنيان الفحولة أبحاث في المذكر والمؤنث، ص29
من نساء مسلمات، سواء في بحوث ورسائل جامعية)86)، أم في مقالات تُظهر موقفًا سلبيًّا تجاهها،وتشكيكًا في مبدئيّتها وصدقية التزامها بالإسلام)96)، ما يعكس فشلًا في إقناع نساء مسلمات تجمع“النسوية الإسلامية“ بهنّ المرجعية الإسلامية نفسها، ويُفترض أن “النسوية الإسلامية“ تسعى إلىالنهوض بهنّ استنادًا إليها. فضلاً عن أنّ التزام هوية ومرجعية دينية )إسلامية( يضع حواجز مع النساء من ديانات أخرى، وكذلك المسلمات غير المتديّنات، ويشتّت النضال النسوي.
إنّ الفكر النسوي عمومًا يتميّز بمنهجه النقدي، فيُسائل البنى والهياكل القائمة، وأسسها، ومرجعياتها، لتجاوزها، في حين إنّ “النسوية الإسلامية“ تتمسّك بمرجعية دينية، ومن ثم تنطلق في جوهرها من فكر ديني يتعارض مع المنهج النقدي، وفي أفضل الأحوال يجعله نقدًا انتقائيًا وخجوًلا.
فالفكر الديني، في حقيقته، فكر إيمانيّ معتقدي، تحكمه يقينيات قبْلية مسبقة، ترسم حدودًا مغلقة للحقيقة، وتجعل من المستحيل تجاوزها لتعذّر نقدها نقدًا جذريًا، خشية خلخلة اليقينيات التي ينطلق منها هذا الفكر. وهنا يُخسى من أنّ النقد الانتقائي المضبوط والنزعات الإصلاحية التوفيقية )والتلفيقية(، كثيرًا ما تصبّ في خدمة البنى التي تزعم مناهضاتها.
والنسوية ستفقد مبرّرات وجودها ومعناها الأعمق، ما لم ترفض بحزم الفكر الأبوي بتعبيراته كافّة، الدينية والسياسية والأخلاقية، وتخرج منه. والخروج من الفكر الأبوي ))يعني التشكيك في جميع أنظمة الفكر المعروفة؛ ونقد جميع الفرضيات وتنظيم القيم والتعريفات، والتخلّص من الرجال العظام في رؤوسنا وأن نحل مكانهم أنفسنا وشقيقاتنا وجدّاتنا المجهولات. أن نكون أيضًا منتقدات لفكرنا نفسه، الذي هو، في النهاية، فكر دُرِّب ضمن التراث الأبوي(()07).
ما تقدّم يفسي إلى التشكيك في تطابق صفة “النسوية“ على ظاهرة “النسوية الإسلامية،“ لكنّه لا يقلّل من أهمّية الجهد الكبير الذي تبذله الباحثات المسلمات الساعيات إلى الدفاع عن المرأة في الإسلام، وشجاعتهنّ في خوض معركة معرفية شديدة التعقيد، وتبدو شبه محسومةٍ في غير صالحهنّ، ذلك أن ))معضلة النصوص الدينية لكافة الأديان أنها كُتِبت في مرحلة كان فيها المجتمع بلا مؤسسات، والسلطة بلا قوانين، والمعرفة بلا مناهج، واللغة بلا قواعد. وبالتالي طبيعي أن تبدو لنا تلك النصوص اليوم قاصرة عن إنتاج نظام قِيَمي أو معرفي فعّال، بقدر ما تبدو للبعض أنها قابلة
)86) مثلًا: فاطمة شرحا نور الدين، المساواة بين الرجل والمرأة في فكر المنظمات النسوية في الحركات الأنثوية، الأخوات في الإسلام بماليزيا نموذجًا: دراسة تحليلية نقدية في ضوء الفقه الإسلامي،“ بحث معد لنيل درجة الماجستير، )ماليزيا: الجامعة الإسلامية العالمية، 2010(.
)96) مثلًا: فاطمة عبد الرؤوف، “النسوية الإسلامية وإعادة إنتاج الفكر العلماني،“ موقع الراصد على الرابط: https://alrased.net/main/articles.aspx?selected_article_no=8059 والكاتبة )إسلامية التوجّه(، تصف ما تقوم به النسوية الإسلامية بأنه استيراد لمصطلحات “الآخر النسوي“، وتبييضها وصبغها بصبغة إسلامية عن طريق ليّ أعناق النصوص أو ابتسارها من سياقها.
)07) غيردا ليرنر، نشأة النظام الأبوي، ص436.
لكل التأويلات والتفسيرات مهما بدت متناقضة(()17).
والبديل تبنّي الاتفاقات والمواثيق الحقوقية التي حُقّقت بفضل كفاح نساء العالم، وصيغت بلغة قانونية لا تحمل اللّبس أو التأويل.
)17) سعيد ناشيد، الحداثة والقرآن، ص25.
المصادر والمراجع
- أبو بكر. أميمة )تحرير(، النسوية والمنظور الإسلامي آفاق جديدة للمعرفة والإصلاح، ط1
)القاهرة: مؤسسة المرأة والذاكرة، 2013(.
- أحمد. ليلى، المرأة والجنوسة في الإسلام، منى ابراهيم وهالة كمال )مترجمتَين(، ط )القاهرة:
المجلس الأعلى للثقافة، 1999(.
- أركون. محمد، قراءات في القرآن، هاشم صالح )مترجمًا(، ط1 )بيروت: دار الساقي، 2017(.
- أنور. زينة، )محررة(، نريد المساواة والعدل في الأسرة المسلمة، ط1 )ماليزيا: أخوات في الإسلام
- مساواة، 2011(.
- بن سلامة. رجاء، بنيان الفحولة أبحاث في المذكر والمؤنث، ط1 )دمشق: دار بترا للنشر والتوزيع، 2005(.
- البخاري. صحيح البخاري، رائد صبري )محققًا( ط1 )الرياض: دار طويق، 2008(.
- الرحبي. ميّة، النسوية مفاهيم وقضايا، ط1 )دمشق: دار الرحبة، 2014(.
- المرابط. أسماء، القرآن والنساء: قراءة للتحرر، محمد الفران )مترجمًا(، نسخة إلكترونية
)د.ن: د.ت.(
- المرنيسي. فاطمة، ما وراء الحجاب الجنس كهندسة اجتماعية، فاطمة الزهراء أزرويل
)مترجمةً(، ط1 )الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2005(.
- حرب. علي، التأويل والحقيقة قراءات تأويلية في الثقافة العربية، )بيروت: دار التنوير، 2007(.
- خليل. خليل أحمد، المرأة العربية وقضايا التغيير بحث اجتماعي في تاريخ القهر النسائي، ط2
)بيروت: دار الطليعة، 1982(.
- شرابي. هشام، النظام الأبوي وإشكالية تخلّف المجتمع العربي، محمود شريح )مترجمًا(، ط2
)بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1993(.
- كوك. مريام، النساء يطالبن بإرث الإسلام، رندة أبو بكر )مترجمةً(، ط1 )القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2015(.
- لابيدس. أيرا م،. تاريخ المجتمعات الإسلامية، فاضل جتكر )مترجمًا(، ط2 )بيروت: دار الكتاب العربي، 2011(.
- ليرنر. غيردا، نشأة النظام الأبوي، أسامة إسبر )مترجمًا(، ط1 )بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2005(.
- مجموعة من المؤلفين، القوامة في التراث الإسلامي قراءات بديلة، رندة أبو بكر )مترجمةً(، ط1 )لندن: وان ورلد، 6102)
- مجموعة من المؤلفين، مشاركة النساء في السلام: الأمن والعمليات الانتقالية في العالم العربي ط1، )بيروت: مؤسسة فريدريش إيبرت، 2018(.
- ناشيد. سعيد، الحداثة والقرآن، ط1 )بيروت: دار التنوير، 2015(.
- ودود. آمنة، القرآن والمرأة: القرآني من منظور نسائي، سامية عدنان
)مترجمةً(، ط1 )القاهرة: مكتبة مدبولي، 2006(.