648
النسوية والموجات النسوية الغربية
الفصل الأول من كتاب النسوية مفاهيم وقضايا
د. مية الرحبي
من الصعوبة بمكان أن نرصد بدقة بداية التحرك النسوي ضد الاضطهاد الذكوري، فمما لاشك فيه أن ذلك تزامن مع بداية تحكم النظام البطريركي الأبوي بالنساء، فأي ظلم يقع على أفراد أو جماعات، لابد أن يولد تحركًا مضادًا، فرديًا يمكن أن يصل بصاحبه إلى حدود التمرد الانتحاري، أو جماعيًا يؤدي إلى تشكيل جبهة تتصدى للفئة المضطِهدة المسيطرة، ولا ينطبق ذلك على النساء فقط وإنما على جميع المجموعات البشرية المضطهَدة على امتداد التاريخ البشري المعروف.
وبما أننا سنقصر بحثنا هذا على الموجات النسوية الغربية فمن البديهي أن تغفل دراستنا جميع التحركات النسوية التي حفل بها تاريخ الشعوب الشرقية، والتي تحتاج إلى سبر تاريخ تلك الشعوب.
أما بالنسبة للغرب، فيشير كتاب شيلا روبتهامsheila rowbetham "الثورة وتحرر المرأة" إلى أن أول تمرد على الظلم الواقع على النساء حدث في أوربا في القرن الثالث عشر، ثم توالت حركات التمرد منذ ذلك الحين بشكل محاولات فردية وجماعية، لكنها متفرقة مبعثرة، تحدّت فيها النساء سلطة الكنيسة والإقطاع، وتصدين لمحاكم التفتيش، وقد أعدم وأحرق العديد منهن، متهمات بالسحر والشعوذة والهرطقة. وقد خاضت العديد من النساء في القرنين السادس والسابع عشر نضالات واضحة في الحقلين الثقافي والاجتماعي دفاعًا عن حقوق المرأة.
شكل خروج المرأة من نطاق العمل المنزلي والزراعي إلى مجال العمل الصناعي نقلة نوعية هائلة في أوضاع النساء الغربيات، إذ بدأت تتشكل تحركات نسوية اتخذت شكلًا جماعيًا، متأثرة بأفكار الثورة الفرنسية (حرية، عدالة، مساواة) والأفكار الاشتراكية والماركسية.
تعاريف النسوية:
طرح مصطلح النسوية لأول مرةfeminism عام 1860، ثم طرح في الثلاثينات من القرن العشرين بقوة في أميركا، بينما طرح في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية وازدهر في الستينات والسبعينات في فرنسا.
يعرف معجم Hachette النسوية بأنها "منظومة فكرية أو مسلكية مدافعة عن مصالح النساء، وداعية الى توسيع حقوقهن".
أمّا معجم ويبستر فيعرفها على أنها "النظرية التي تنادي بمساواة الجنسين سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، وتسعى كحركة سياسية إلى تحقيق حقوق المرأة واهتماماتها وإلى إزالة التمييز االجنسي الذي تعاني منه المرأة".
وتعرفها Sara Gambel في كتابها النسوية وما بعد النسويةfeminism and post feminism بأنها "حركة سعت الي تغيير المواقف من المرأة كإمرأة قبل تغيير الظروف القائمة وما تتعرض اليه النساء من إجحاف كمواطنات على المستويات القانونية والحقوقية في العمل والعلم والتشارك في السلطة السياسية والمدنية".
وتعرف الكندية «لويز تزبان» النسوية بأنها "انتزاع وعي فردي في البداية ومن ثم وعي جمعي تتبعه ثورة ضد موازين القوى الجنسية والتهميش الكامل للنساء في لحظات تاريخية معينة".
هنالك نوعان من ناشطات الحركة النسوية:
- ناشطات جماعات المصالح، ويهدفن إلى التأثير في النخبة السياسية، ومن ثم القرارات السياسية والتشريعات.
- ناشطات يستخدمن الخطاب الثقافي.
وأهم وثيقتين في هذا الصدد هما:
أ – الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948؛
ب –اتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو cedaw) عام 1979.
الموجة النسوية الأولى:
هي موجة المطالبة بحقوق التعليم والعمل وحقوق المرأة المتزوجة بالملكية وحضانة الأطفال، وحق الاقتراع.
تاريخيًا:
يؤرخ تقليديًا لهذه الموجة بظهور مؤلف ماري ولستون كروفت "دفاعا عن حقوق النساء" 1792، والتي أوضحت فيه أن النساء بحاجة للعقلانية، التي سيتوصلن إليها عن طريق التعليم، كما ناقشت نظرة المجتمع للأنوثة.
فكريًا:
تصدت مفكرات ومفكري النسوية الأولى إلى ما توارثته الذاكرة الجمعية والفردية من أفكار سلبية عن المرأة من خلال صورة المرأة في التراث اليهودي والمسيحي- المرأة أصل الخطيئة-وصورة المرأة في أعمال ومواقف العديد من المفكرين والفلاسفة الغربيين تجاه المرأة من (أفلاطون) الذي يصنف المرأة في درجة دنيا مع العبيد والأشرار والمخبولين والمرضى، إلى الفلاسفة المتأخرين مثل (ديكارت) من خلال فلسفته الثنائية التي تقوم على العقل والمادة: فيربط العقل بالذكر ويربط المادة بالمرأة، مرورا ب (كانط) الذي يصف المرأة بأنها ضعيفة في تكوينها ككل، وبخاصة في قدراتها العقلية، وانتهاء بفيلسوف الثورة الفرنسية (جان جاك رسو) الذي يقول: إن المرأة وجدت من أجل الجنس ومن أجل الإنجاب فقط، و (فرويد) رائد مدرسة التحليل النفسي، الذي يرجع كل مشاكل المرأة إلى معاناتها من عقدة النقص تجاه العضو المذكر.
وقد أدت تلك المراجعات النقدية للأطر والمناهج العامة للفكر الغربي إلى بلورة طروحات نسوية جديدة، أثبتت أن النظرة الدونية للمرأة ما هي إلا نتاج تأثيرات الثقافات السائدة، التي لا تمتلك أي جذور حقيقية أو مصادر طبيعية تستند عليها. إذ أنها نتاج النظام البطركي (الأبوي) الذي جرى بناؤه منذ آلاف السنين: نظام هيمنة ذكورية ظل متماسكًا رغم كل الثورات والتطورات التكنولوجية التي حصلت على مر القرون الماضية، ما أدى إلى علاقات تراتبية بين الجنسين، تحولت إلى قناعات راسخة عند كل منهما.
ميدانيًا:
بدأت في أمريكا الدعوة لحقوق النساء في مؤتمر كبير في سينكا فولز عام 1848 شاركت فيه أكثر من 300 شخصية، منهم 40 رجلًا، كان من أهم مطالبه وقف التمييز ضد النساء. وقد اهتمت الأمريكيات بحق التعليم، العدالة، تحرير العبيد، وحق التصويت.
أما في في انكلترا فركزت المطالب النسوية في الخمسينات من القرن التاسع عشر على المطالبة بحق التعليم والعمل وتعديل قوانين الزواج –حقوق المتزوجات بالملكية والحضانة-، فقادت الناشطات النسويات حملة حضانة الأطفال 1838، ووثيقة المطالبة بحق الملكية للمرأة المتزوجة 1857، وقد اتهمت الحركة النسوية البريطانية بأنها تقصر اهتمامها على مشكلات بنات الطبقة الوسطى.
الموجة النسوية الثانية:
تاريخيًا:
تشير الموجة الثانية إلى نشاطات الحركة النسوية الممتدة بين 1960 و حتى نهايات القرن العشرين. في هذه المرحلة بدأت الحركة النسوية تأخذ طابعًا عالميًا يشمل المرأة في جميع أنحاء العالم. وفيها تجاوزت مطلب المساواة واعتمدت النقد العقلاني، وظهرت فيها تيارات ومذاهب عديدة، اعتمدت لغة التحرر من القمع السياسي والاجتماعي والجنسي.
فكريًا:
دعت الموجة الثانية إلى إعادة تشكيل الصورة الثقافية للأنوثة بما يسمح للمرأة بالوصول إلى النضوج واكتمال الذات أي تحقيق الأنوثة. ذلك لان الأنوثة غامضة وغريزية وقريبة من خلق الحياة وأصلها، إلى درجة أن العلم الذي صنعه الرجل قد لا يستطيع فهمها، تبعا لبيتي فريدان.
وعلى الرغم من أن أوج فترة الموجة الثانية من النسوية يرتبط عامة بصدور كتاب كيت ميليت "عن السياسات الجنسية" (Kate Millett, Sexual Politics 1970) إلا أن العديد من الأفكار التي أثرت على الموجة الثانية من الحركة النسوية، وكذلك العديد من الأفكار التي سعت بعض النسويات لمواجهتها وتحديها، يمكن تتبع أصولها إلى:
- كتاب "أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة" لفردريك انجلز
Friedrich Engels,The Origin of the Family, Private Property and the State
صدر عام 1884، لخص فيه إنجلز أبحاث باهوفن ومورغان، وكذلك دراساته هو وماركس في هذا الإطار، وأنا اعتبر أن هذا الكتاب من أهم الكتب التي اعتمدت عليها الحركة النسوية إن لم يكن أهمها على الإطلاق، إذ أنه يبرز بشكل واضح مقنع أن النظام الأبوي البطريركي الذي قام على سيطرة وتفوق واضهاد الرجل للمرأة ليس من الصفات المميزة للطبيعة البشرية، وليست السمة الوحيدة التي وسمت المجتمعات منذ بدء الخليقة، بل إن البشرية عاشت العصر الأمومي، الذي كانت فيه القرابة تحسب وفقا لخط الأم، وكانت فيه الملكية جماعية، فكل ما تملكه القبيلة ملك لجميع أفرادها، قبل أن يتم الانقلاب الكبير الذي سيطر فيه المجتمع الأبوي البطريركي على مقاليد الأمور بظهور الملكية الخاصة، وتم إسقاط الحق الأمي وتلك كانت الهزيمة التاريخية العالمية لجنس النساء، إذ ظهرت العائلة البطريركية، بشكل الزواج الأحادي، والذي كما يقول إنجلز كان أحاديًا للمرأة فقط، التي فُرضت عليها قيود العفة، وفُرضت عليها رقابة صارمة بلغت حدود حبسها في البيت أو مراقبتها بشكل دائم (من قبل الخصيان والعبيد أو العائلة) كي يضمن الرجل أن من تلدهم هم أولاده، وأن ملكيته ستنتقل لمن هم بالتأكيد من صلبه، في حين أوجد النظام البطريركي مؤسسات البغاء والجواري التي تؤمن للزوج حرية ممارسة الجنس خارج إطار الزواج الأحادي، وتدريجيًا تدنت قيمة المرأة داخل الأسرة لتتحول إلى وعاء لتأمين متعة الرجل ووسيلة لإنجاب الأولاد، ومن ثم عبدة للرجل، "وعليه لا يدخل الزواج الأحادي إطلاقا في التاريخ بوصفه اتحادًا اختياريًا بين المرأة والرجل، ولا بوصفه الشكل الأعلى لهذا الاتحاد، بل بالعكس، فهو يظهر كاستعباد جنس من قبل جنس آخر" ص 82 ، كما أن الزواج هذا كان غالبا زواجًا طبقيًا يعقد كصفقة بين عائلتي الزوجين وهو ما أسماه إنجلز بزواج الإنتفاع، وهنا لا تؤجر المرأة جسدها كالبغي في كل مرة، بل تبيعه دفعة واحدة وإلى الأبد كالعبدة، ولم يكن هذا الزواج يقوم على الحب، بل على العكس كان الحب الذي حكت عنه الكثير من الأشعار والروايات هو الحب الذي لا ينتهي بالزواج.
وهكذا بدأ عصر اضطهاد المرأة مترافقًا مع كافة أشكال قهر الإنسان لأخيه الإنسان ، فالسيطرة الذكورية ارتبطت بسيطرة القوة، واستغلال الأقوى للأضعف، ذلك الاستغلال الذي تحول إلى سياسة ثابتة حكمت جميع المجتمعات البشرية ولا زالت تحكمها حتى اليوم. وقد انطلقت جميع الدراسات النسوية اللاحقة من هذه النقطة، والتي حتى وإن لم يشر إليها الباحث مباشرة فهي موجودة في ثنايا الأفكار التي يطرحها، لأن جميع الدراسات اللاحقة اعتبرت العصر الأمومي، الذي تلاه العصر البطريركي الأبوي هو من المسلمات التي لا تحتاج إلى نقاش.
- كتاب سيمون دي بوفوار "الجنس الآخر" :
Simone de Beauvoir, The Second Sex
صدر عام 1949، ويعتبر هذا الكتاب أيضا مؤسسًا للفكر النسوي، فقد وضعت سيمون دي بوفوار في كتابها الرائد هذا أسس مفهوم الجندر /الجنوسة/ النوع الاجتماعي، بعبارتها الشهيرة (لا تولد المرأة امرأة، ولكن المجتمع هو الذي يعلمها أن تكون امرأة) كما توازي سيمون دي بوفوار بين مصير الذات الخاضعة للاستعمار وبين مصير النساء، وهي مقارنة تسلط الضوء على ميل الحركة النسوية إلى تعميم أشكال القهر، وبالتالي تجاهل التعقيدات والخصوصيات التي تتعلق بالانتماء إلى الآخر على أساس الجنس أو العرق أو الثقافة، وترى سيمون دي بوفوار أن المقولة المعادية للنسوية في القرن التاسع عشر، والقائلة بأن النساء متساويات ولكنهن مختلفات عن الرجال، هي مقولة تعيد إنتاج صيغ شبيهة من التمييز ضد النساء مثل قوانين الفصل العنصري ضد الأمريكيين من أصول أفريقية. كما تؤكد دي بوفوار في كتابها على المرأة بصفتها "الآخر" بالمعنى الفلسفي –وليس بمعنى "الغير" في العلوم الإنسانية- أي الفرد الذي تحدد خصائصه الذهنية والنفسية والبدنية باعتبارها الخصائص المضادة أو المقابلة للخصائص المعيارية للرجل.
- كتاب بيتي فريدان "اللغز الأنثوي":*( هامش: ترجمة دار الرحبة)
Betty Friedan, The Feminine Mystique
ويعتبر أيضا من أمهات الكتب المؤسسة للفكر النسوي. صدر عام 1963، وطرحت فيه بيتي فريدان أن تحرر النساء يبنى على تحريرهن في المجال الخاص (الأدوار الانجابية والخدمية)، وانتقالهن إلى المجال العام، كما طرحت بيتي فريدان في كتابها مفهومي التمييز الايجابي والعمل المرن.
وما أسمته اللغز الأنثوي هو الطريقة التي يتم بها تعليم الفتيات أن يبحثن عن "التحقق بوصفهن نساء" بالمفهوم التقليدي أي زوجات وأمهات وربات منازل، ولكن نتيجة أن الطبيعة الانسانية لديها دافع داخلي للنمو وللامتداد، فحصر قدرات النساء في هذه الأدوار يجعل أجساد النساء السليمات وعقولهن تتمرد وهنّ يحاولن التكيّف مع دور لا يسمح بذلك النمو..... ليس لدى ربات المنازل اللواتي يعشن وفق اللغز الأنثوي هدفًا شخصيًا يمتدّ إلى المستقبل. ولكن، بدون هدف من ذلك القبيل، يحرّض قدراتهن الكاملة، لا يستطعن النمو نحو تحقيق الذات. بدون هدف من ذلك القبيل، يفقدن الحسّ بحقيقتهن، لأنّ الهدف هو ما يعطي أيام المرء طابعها الإنساني.... تصرخ القدرات مطالبة باستخدامها، ولا توقف صراخها إلاّ عندما تستخدم جيدًا. وهذا يعني أنّ القدرات هي أيضًا حاجات. ليس استخدام قدراتنا تسلية وحسب، بل ضرورة أيضًا. يمكن أن تصبح القدرة غير المستخدمة، أو العضو غير المستخدم مركزًا للمرض، وإلاّ فإنه يضمر، وبالتالي يقلّص الشخص".
وتطلق فريدان وصف اللغز الأنثوي على "المشكلة التي لا إسم لها" و"المتمثلة ببساطة في منع النساء الأمريكيات من النمو حتى تحقيق قدراتهن الإنسانية الكاملة"، وبالتالي على المرأة أن "تتعلم أن تنافس، لا بوصفها امرأة، بل بوصفها إنسانة. ولن يؤمّن المجتمع ذاته الترتيبات من أجل خطة الحياة الجديدة للنساء إلاّ بعد أن ينتقل عدد كبير من النساء من الهامش إلى التيار الرئيسي. لكنّ كل فتاة تفلح في الصمود حتى النهاية في كلية الحقوق أو كلية الطب، وتنهي الماجستير والدكتوراه، وتتابع لاستخدامهما، تساعد الأخريات على المضي قدمًا. كلّ امرأة تحارب العقبات المتبقية أمام المساواة التامة المقنّعة باللغز الأنثوي تجعل الأمر أسهل على الفتاة التي تأتي بعدها".
وتضع فريدان حلولا فردية لتعليم النساء، وتمكينهن:
"وعلى نحو مشابه، عندما تكون امرأة قد أخذت مقررات في عدد من المؤسسات المختلفة، ربما نتيجة تنقّل زوجها جغرافيًا من مكان لآخر، وحققت ساعاتها المعتمدة في المجتمع من وكالة أو مستشفى أو مكتبة أو مخبر، فيمكن أن تجري لها جامعتها الأصلية أو مركز وطني ما أنشأته مجموعة من الجامعات الفحوص الشفهية والعامة والمناسبة للحصول على الدرجة العلمية".
قارنت فريدان بين النساء والسود من حيث معاناة العبودية، والحاجة إلى التحرر والانعتاق:
"بدا لي أنّ شيئًا ما يتجاوز الكلام يجب أن يحدث". وتضيف "الشيء الوحيد الذي تغيّر حتى الآن هو وعينا، هذا ما كتبتُه مقتربةً من ذاك الكتاب الثاني، الذي لم أنهه قطّ، لأنّ الجملة الثانية فيه كانت: ما نحتاج إليه هو حركة سياسية، حركة اجتماعية شبيهة بتلك التي للسود".
"واليوم، من يموّل حملة إيقاف الفصل الأخير من الحركة النسائية من أجل المساواة؟ ليست مؤامرة من الرجال لكبح النساء؛ بل هي مؤامرة من قبل أولئك الذين تقوم سلطتهم أو ربحهم على التلاعب بمخاوف النساء السلبيات وغيظهن الضعيف. ستغيّر النساء –آخر وأكبر مجموعة من الناس في هذا البلد تطالب بالسيطرة على مصيرها الخاص- طبيعة السلطة السياسية ذاتها في هذا البلد".
إلا أن بيتي فريدان أرجعت كل قضايا المرأة وحلول تلك القضايا –بتبينيها الفكر الليبرالي- إلى شأن فردي وحلول فردية، دون ان تتطرق إلا لمامًا لتأثير العاملين السياسي والاقتصادي.
كتاب جيرمين غرير "المرأة المخصيّة": *( هامش ترجمة دار الرحبة)
The Female Eunuch by Germaine Greer.
يستعرض الكتاب جزءًا من تاريخ المعركة الطويلة بين تيارين كبيرين: تيار يسعى إلى تأبيد الصورة النمطية والدفاع عنها، وتيار يسعى إلى كسر تلك الصورة وفتح آفاق جديدة أمام النساء. ويعرض الإنجازات والحقوق التي انتزعتها هذه الحركة هنا وهناك، مبينًا أن الطريق لم يكن ممهدًا واضح المعالم أمام حركة حقوق المرأة، مثلها في ذلك مثل جميع الحركات الكبرى في التاريخ، ولم تكن الحدود بارزة بين التيارين. فقد ألحقت نساء كثيرات الأذى بقضية المرأة، سواء بخنوعهن للدور المرسوم لهن وقيامهن بما يلزم لتأبيده، أو باتخاذ مواقف متطرفة، على الجانب الآخر، تصل إلى حد الاستغناء عن الرجال، أو حتى القضاء عليهم. وبالمقابل، وُجد رجال ممن فهموا قضية المرأة، وناصروها، ربما بأحسن من مناصرة النساء أنفسهن لها. والكتاب، في اتخاذه موقفًا نقديًا من الأفكار والأفعال المختلفة، يزعزع أركان بعض الآراء التي رسخت طويلاً في الأذهان على أنها حقيقة مطلقة، ليكشف أنها حقيقة نسبية وابنة شرط معين، بما في ذلك تلك الآراء التي جاءت بها عقول نابغة في التاريخ؛ فيعترف الكتاب لها بفضلها دون أن يسلّم بصحة كل شيء جاءت به، وخير مثال على ذلك فرويد. ويستعرض الكتاب في النهاية عددًا من الحركات النسوية في أوروبا الغربية وأمريكا فيبين ما لها وما عليها، وأي آفاق أمامها.
انقسمت الحركة النسوية في هذه الموجة إلى تيارات ومناهج عدة، تشير أغلب الدراسات إلى أربعة رئيسية منها هي:
- النسوية الماركسية MARXIST FEMINISM
- النسوية الليبرالية LIBERAL FEMINISM
- النسوية الاشتراكية SOCIALIST FEMINISM
- النسوية الراديكالية RADICAL FEMINISM
في حين تضيف أبحاث أخرى إلى تلك التيارات، تيارات أخرى هي :
- النسوية البيئية ENVIRONMENTAL FEMINISM
- النسوية السوداء BLACK FEMINISM
- النسوية الثقافية CULTURAL FEMINISM
- النسوية الوجودية EXISTENTIAL FEMINISM
تشكل النسوية الاشتراكية والليبرالية والماركسية اكثر من 80% من الحركات النسوية.
تتشابه وتتقارب مطالب النسوية بشكل عام، لانها بمجملها مطالب حقوقية إنسانية (العدل، المساواة، عدم التمييز بين البشر، رفع الظلم الخ...) لكن لكل تيار فكر وأيديولوجية خاصة به.
النسوية الماركسية:
تربط النسوية الماركسية اضطهاد المرأة بأفكار ماركس التي تتعلق باستغلال الرأسمالية لجهود الطبقات العاملة، واستغلال المجتمع البطريركي لجهود النساء باعتبارهن عاملات منتجات (انتاج الأطفال والعمل المنزلي)، لا يملكن وسائل الانتاج و تتم سرقة جهودهن، شأنهن شأن العامل المستغَل من قبل صاحب العمل، وقد طرحت فيما بعد بعض النسويات الماركسيات فكرة أن النساء يشكلن طبقة مستغَلة، أوضاعها أسوأ من أوضاع الطبقة العمالية، ففي حين تتواجد الطبقة العمالية في مكان واحد هو المعمل، وتنتظم قواها ضمن نقابات، تتبعثر النساء في منازل متفرقة، وتنعزلن عن بعضهن مما يجعل توحيد جهودهن على درجة كبيرة من الصعوبة. وتركز النسوية الماركسية على إحداث تغيير مجتمعي شامل، لا على تغيير الفرد المكون لهذه المجتمعات. فبتحويل وسائل الانتاج إلى ملكية عامة اجتماعية لن تبقى العائلة الفردية وحدة المجتمع الاقتصادية، بل يصبح الاقتصاد البيتي الخاص فرعًا من فروع النشاط الاجتماعي، وتغدو العناية بالأطفال وتربيتهم من شؤون المجتمع، ما سيحرر المرأة من العمل المنزلي المرهق. إن ترافق ذلك مع خروج المرأة إلى العمل وما سيؤمنه ذلك لها من استقلال اقتصادي، كفيل بتحقيق المساواة بين المرأة والرجل، بزوال شكل الأسرة القائم على سيطرة الرجل الاقتصادية وبالتالي الاجتماعية، وبقاء العلاقة الانسانية القائمة على الحب المتبادل فقط.
النسوية اليبرالية:
هي تيار نسوي يركز على الفردية أو على المرأة كفرد، وعلى قدرات المرأة وإمكانياتها في الحصول على حقوقها والمحافظة عليها من خلال نشاطها وفاعليتها واختيارها، عندما تؤمن لها الحرية وكافة الحقوق الأخرى. وهي تؤمن بالتفاعل الشخصي بين الرجل والمرأة كوسيلة لتغيير المجتمع، وتؤمن بقدراتها على الحصول على المساواة التامة وبإمكانية ذلك دون تغيير في البنى الاجتماعية.
و أن المساواة بين الرجل والمرأة تأتي من خلال العدالة وسيادة القانون. وكما ذكرنا يعتبر كتاب بيتي فريدان المؤسس لهذا التيار.
النسوية الاشتراكية:
لم تقتنع نسويات هذا التيار بما طرحته الماركسية من أن القضاء على النظام الرأسمالي ودكتاتورية البروليتاريا –والشيوعية مستقبلًا- كافية وحدها للقضاء على استغلال الرجل للمرأة، بل اعتبرت النسوية الاشتراكية أن المجتمع يتضمن بنيتين مسيطرتين هما النظام الرأسمالي والنظام الأبوي، كشكلان متمايزان للعلاقات الاجتماعية الاقتصادية، ويجب تحليل كل منهما على حدة، ومحاربة كل منهما بأدوات مختلفة، وكلا النظامين يستغل النساء ويضطهدهن، إذ يقع على المرأة اضطهاد مضاعف. وطالبت النسويات الاشتراكيات بحرية الإنجاب، والمسؤولية الوالدية المشتركة، وتطوير مختلف أشكال المشاركة بالإنتاج الاجتماعي، وتقويم العمل المنزلي اقتصاديًا، والانتباه إلى الخصوصية المعرفية النسائية، وإعادة كتابة التاريخ وتقييم مساهمة النساء في صنع الحضارة، وربط الخاص بالعام.
النسوية الراديكالية:
يرى هذا التيار بأن الرجل هو المتحكم بهرمية رأس المال وهذا ما يفسر الأدوار الجندرية ويفرز اضطهاد الرجل للمرأة، وأن وضع المرأة الحالي هو ناتج عن سيطرة الرجل على مراكز القوى والسلطة والمال، وهو المسؤول الأول عن اضطهادها، وطالما أن هذا النظام وهذه القيم هي التي تحكم المجتمع فإن المرأة لن تتمكن من إنجاز أيّ تغيير هام في مسيرتها نحو المساواة.
يهدف هذا التيار الى سد الثغرات في تياري النسوية الليبرالية والماركسية من خلال التأكيد على الطابع العام للتمييز ضد النساء بوصفه عابرًا للمناطق والثقافات، مستقلًا عن الطبقات. وتعتبر النسويات الراديكاليات أن البطريركية هي أساس التمييز ضد النساء والسيطرة عليهن، وينسحب ذلك على ميادين الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والجنسية كافة، ويخلق نظام تنميط للجنسين من خلال ثقافتين: واحدة ذكورية مسيطرة، وأخرى نسائية مسيطر عليها.
ومن بين استراتيجيات هذا التيار، الهادفة الى تغيير المعادلة الاجتماعية القائمة، استعادة النساء لأجسامهن وكيانهن وإعادة الاعتبار الى ثقافة خاصة بهن، الى حد الانفصال عن الرجال والعيش في مجتمعات نسائية مستقلة.
وانطلاقًا من هذا التيار، ولدت مذاهب فكرية ونقدية أضاف كل منها نواح جديدة الى التحليل السيكولوجي وفهم الحالة النسوية. وتأسس مذهب متمحور حول عالمة النفس لوس إيريغاراي التي طورت التفكير حول مفهوم الاختلاف، وخلقت نقاشات حول الطابع البيولوجي والاجتماعي لهذا الاختلاف. واستعاد هذا المذهب قول المفكرة والنسوية الفرنسية سيمون دو بوفوار (لا تولد المرأة امرأة، ولكن المجتمع هو الذي يعلمها أن تكون امرأة) جاعلًا منه أبرز شعاراته.
بعد السبعينيات بدأ التنظير للفكر المثلي عبر تيار جديد سمي "تيار النسويات المثليات" رأى بأن التمييز بين الرجل والمرأة يتبلور بشكل أساسي في العلاقات الجنسية بينهما، ولمحاربة هذا التمييز ينبغي اجتثاث الجذر وهو العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة وخلق علاقات مثلية يكون الطرفان فيها متساويين.
وتعبر النسوية الراديكالية البارزة روبين مورغان Robin Morgan عما تراه من قهر عالمي للنساء بوصفها النساء بأنهن شعب خاضع للاستعمار، وقد تم استعمار أرضهن النفيسة –أي أجسادهن– من قبل المجتمع البطريركي. أما الأمر الأكثر أهمية فهو أن تلك الأرض بما فيها من موارد يتم استغلالها: حيث يتم إجبار النساء على الإنجاب دون أي ضمانات من قبل الرجال تؤكد التزامهم بدعم أو رعاية أو تحمل أي مسؤولية على الإطلاق تجاه الطفل. كما أن النساء قد استوعبن تماما الأفكار المعادية للنساء عن أجساد النساء باعتبارها "نجسة"، وهي دائما موضوعة في الخدمة لتحقيق المتعة والرغبات الإنجابية للرجال.
حركة النسويات السوداوات:
صب هذا التيار لمصلحة المدرسة النسوية الراديكالية. والجدة في هذا التيار نشأته في أوساط المناضلين السود، ما أضاف البعد العنصري الى معادلة الجنسي والطبقي، ووضع التشابهات بين آليات التمييز العنصري وآليات التمييز الجنسي. فبالنسبة الى النسويات السوداوات، وصل التمييز الجنسي الى ذروته مع دخول النساء الحيز العام ومشاركتهن الرجل في العمل. فقد انتقلن عندها من نظام سيطرة ذكورية واستغلال تقليدي الى كائنات لها حقوقها ومسؤولياتها المدنية، تنافس الرجال وتولد عندهم العدائية والتمييز الجنسي العنيف، على نحو يشبه تمامًا التمييز العنصري الذي تعرض له السود بعيد تحررهم.
النسوية البيئية:
ظهر هذا التيار في الثمانينيات، تزامنًا مع تصاعد الكوارث البيئية، وتصدرته النسوية الهندية فاندانا شيفا وارتفعت شعبيته في دول العالم الثالث، ويقول هذا التيار بأن المرأة (المشبهة بالطبيعة في معظم المعتقدات والخرافات الدينية) تتعرض لنفس أنماط الاستغلال التي تتعرض لها الموارد الطبيعية على يد النظام الرأسمالي ورجاله. وبالتالي، لا يمكن لغير ثقافة سلمية، معادية للرأسمالية ومحترمة للشعوب والطبيعة، أن تلغي الاستغلال والتمييز اللذين تتعرض لهما نساء الكون...
النسوية الثقافية:
ساهمت في فضح الخلفيات والدلالات البطريركية للأمثال الشعبية وللقص الشعبي، اللذين بنيت عليهما الخلفية الثقافية والاجتماعية للفرد والمجتمع، وتلك الذائقة الأدبية التي يولدانها والتي تتغلغل في لاوعي الأطفال الذين سيصبحون رجالًا ونساءً في المستقبل. وساهمت كذلك في إماطة اللثام عن الكثير من الآليات اللغوية والدلالات الذكورية المكرسة في اللغة، وفي سياق الحفر والبحث عن تأثير الرجل في إنتاجه الفكري والعلمي، بحثت المفكرات النسويات عميقًا في أثر الذات في التجربة، وتفاعل هذه الذات مع النتائج وتأثيرها فيها. ولازالت تتصدى حتى اليوم للكتب الرائجة، التي تؤكد الفوارق الشاسعة بين المرأة والرجل، إلى حد اعتبارهما ينتميان إلى كوكبين مختلفين.
والنسوية الثقافية هي امتداد ورافد للفكر النسوي الفلسفي وموجه للحركة النسوية في مختلف المجالات (علم الإنسان، علم الاجتماع، الاقتصاد، النقد الأدبي، تاريخ الفن، التحليل النفسي، الفلسفة) وهدفت مدارس هذا التيار إلى فهم عدم المساواة الجندرية: أسبابها، تحليلها نتائجها، وتقديم نقد مجتمعي سياسي يركز على حقوق المرأة وقضاياها والتمييز الجنسي، وتشييء المرأة وخصوصا من الناحية الجنسية.
نسوية التحليل النفسي:
تميزت الفرويدية الجديدة بنقد مقولة الحتمية البيولوجية، واعتبرت كارين هورني أن مشاكل النساء ناجمة ليس شعورهن بالنقص تجاه العضو الذكري(الحسد القضيبي) بل إدراكهن لوضعهن الاجتماعي المتدني، كما أقرت رموز هذه المدرسة أن الابداع والحيوية والقوة (الأنا العليا) عمياء الجنس.
النسوية الوجودية:
اعتبر البعض المدرسة النسوية الفرنسية امتدادا للنسوية الوجودية التي أسستها سيمون دي بوفوار في كتابها الجنس الآخر، مستندة إلى المقولات الأساسية لسارتر: الذات، الآخر، الموجود بذاته، والموجود لذاته. وركزت في تفسيرها لاضطهاد النساء على مفهوم الآخر، فالمرأة هي الآخر لأنها ليست رجلًا، كما أنها الآخر الذي يتقرر مصيره من قبل غيره(آخر الآخر) وإذا أرادت أن تتجاوز وجودها كآخر، لتصبح ذاتًا (موجودًا لذاته) فلا بد لها من تجاوز الحدود والصفات والأدوار التي تقيد وجودها من قبل الآخر، وقد كانت هذه الأفكار كما ذكرنا مقدمة لفكرة الجندر التي تقول (لا تولد المرأة امرأة، ولكن المجتمع هو الذي يعلمها أن تكون امرأة).
ميدانيا:
ينظر إلى "الموجة الثانية" من النسوية التي تعود إلى السبعينات من القرن العشرين باعتبارها فترة نشر المفاهيم النسوية جماهيريًا.
ففي أميريكا أسست فريدان المنظمة الوطنية للمرأة، التي اعتمدت الفكر الليبرالي في المساواة وحقوق الأفراد.
أما في انكلترا فقد ظهر سياق مختلف هو السياق الاقتصادي الاجتماعي، وكان تحرك العاملات في شركة فوردز عام 1968 للمطالبة بمساواة أجورهن بالعمال ملهمًا للكثير من الناشطات النسويات، وعقد أول مؤتمر وطني لتحرير النساء في راسكن، خرج بمجموعة من المطالب: المساواة في الأجور والتعليم، إنشاء حضانات، وحرية في استخدام موانع الحمل والاجهاض، وقد وجدت حركات نسوية ليبرالية في انكلترا، إلا ان المنحى الأساسي للحركة النسوية البريطانية اتخذ منحى اشتراكيًا ماركسيًا.
في فرنسا ميزت نفسها حركة تحرير المرأة عن الحركة الطلابية 1968، بتركيزها على أوضاع النساء مستلهمة أفكار سيمون دي بوفوار، ومنتقدة مدرسة التحليل النفسي الفرويدية.
وقد مثلت (المسيرة العالمية للمرأة) ضد العنف والفقر، ومشاركة النسويات والنسويين الفاعلة في اللقاءات المواطنية مثل (منتدى بورتو أليغري)، بدايات خروج الحركة النسوية من انعزاليتها الأولى، وتبنيها من قبل الكثير من الحركات المناصرة للعدالة والمدافعة عن حقوق الإنسان، التي تضم النساء والرجال معًا.
مأسسة وعولمة الدراسات النسائية:
تؤكد النساء المنخرطات في الحركة النسوية لفترة السبعينات أن الحركة كانت منذ مولدها ملتزمة بالتنوع والاختلاف، إلا أنهن يجدن أنفسهن مضطرات في نفس الوقت إلى الاعتراف بأن الخطاب الرسمي للنسوية المؤسسية كثيرًا ما يتم التعبير عنه من منظور النساء الغربيات البيض من الطبقة الوسطى.
ومن الموضوعات التي أثارت الجدل فيما بين النسويات المعاصرات هي وجود فجوة بين النسويات الأكاديميات وغالبيتهن من البيض، وبين النسويات من الأقليات الثقافية والعرقية في الغرب، ونسويات العالم الثالث. وبالتالي فإن النقاش الدائر يرى أن النسويات اللاتي يتمتعن بالسلطة المؤسسية في تشكيل الخطابات النسوية يحاولن توحيد تجارب كل النساء في كيان واحد.
إقرار شرعية مطالب النساء في المنظمات الدولية:
نالت مطالب النساء شرعيتها الدولية من خلال الصكوك والوثائق الدولية و ترويجها من خلال المؤتمرات الأممية التي تخصصت في القضايا الاجتماعية، مثل: مؤتمر السكان في القاهرة عام 1994م، أو المؤتمرات التي ركّزت على قضايا النساء وهي أربعة: مؤتمر مكسيكو سيتي 1975 ومؤتمر كوبنهاغن 1980، مؤتمر نيروبي 1985 ومؤتمر المرأة في بكين عام 1995م، الذي اعتبرت وثيقته مرجعية في مصاف اتفاقية (سيداو) من حيث الأهمية والمتابعة.
الموجة الثالثة (ما بعد النسوية):
ما بعد الحداثة:
بني مفهوم ما بعد الحداثة على أساس أن صيرورة تسلسل الأحداث لابد أن يؤدي إلى تجاوز ما، فالعصور تتوالى، والواقع يتغير ويتبدل، والفكر والمعرفة في تطور مطرد بحكم تطور العقل، لذلك فإن ما نعتبره الآن حديثًا يعطي الانطباع بأنه سيصبح قديمًا في فترة لاحقة. كما يدعو مفهوم ما بعد الحداثة إلى نبش الأسس وكسر للقوالب الجاهزة والخروج على النماذج المألوفة، بل إن ثمة تفجيرًا للأشكال وتدميرًا للأنساق.
يستخدم "ميشل فوكو" و"جاك دريدا", وهما من البنيويين الجدد, عدة مصطلحات تتجلى فيها أوجه النفي ما بعد الحداثي بوضوح مثل:
- التفكيك (dissociation)
- والاختلاف (Difference)
- والتشتيت (dispersion)
- واللااستمرارية (discontinuity)
لكل شروط المعرفة ومصادرها ومعاييرها ومناهجها، وموقف العارف وتأثير الذات العارفة في العملية المعرفية. ومن مفهوم ما بعد الحداثة اشتق مفهوم ما بعد النسوية.
ما بعد النسوية:
اعتمدت الفلسفة ما بعد النسوية على تحولات ما بعد الحداثة في النظر إلى الذات العارفة من حيث أن لها الدور المحوري في عملية المعرفة، وأضافت إليها بناء على ذلك تأثير الجنوسة أو دورها في عملية المعرفة.
ويتجلى دور الذات –الذاتية الذكورية- في أعمال جميع المفكرين والفلاسفة الذكور على امتداد التاريخ البشري، ومثالها فصل ديكارت للوعي العقلاني عن الجسد ليربط الأول بالذكر، والثاني بالأنثى.
فصيرورة إنتاج المعرفة تخضع للشروط الاجتماعية التي تشكل الوسيط بين الذات والموضوع، وبما أن الجنس مقولة اجتماعية، لا مجرد مقولة بيولوجية فقط، فان جنس الذات العارفة جزء لا يتجزأ من منظورها الاجتماعي، أي إن عملية إنتاج المعرفة عند الذكور لا يمكن فهم شروطها ومقتضياتها إلا من ضمن كونها ممارسات للذكور باعتبارهم يمثلون فئة اجتماعية لها منظورها الخاص.
وقد طرحت الفيلسوفة النسوية لورين كود ومن ثم الفيلسوفة الاسترالية جنفييف للويد التغيرات التي لحقت بالمفهوم، الذي ظل محكومًا بالانحياز الذكوري. وأبانت للويد كيف قام العقل على أسس مناقضة لكل ما هو نسوي ولسائر التوجهات النسوية، وكيف عملت الفلسفة منذ عهدها الإغريقي على البحث عن مبدأ ميتافيزيقي يفصل الذكورة الإيجابية عن الأنوثة السلبية.
عمل ذلك الجيل الثالث من الحركة النسوية على تعميق مفهوم الاختلاف بين الذكر والأنثى ومحاولة تعميق هذا الاختلاف شرط الندية بينهما وانتفاء التراتبية، وطالب بفرص متساوية للمرأة والرجل مع الإصرار، وتوالي الإصرار، على تفرد الطبيعة الأنثوية للمرأة والمختلفة عن الطبيعة الذكورية للرجل.
كما عمل الجيل الثالث على نقد منظومة التضاد الثنائية (أبيض- أسود، ليل- نهار) وبنية التفكير البطريركي التي تقوم على التعارض والتراتب، وليس على الندية والاختلاف والتنوع والتلون. هكذا نلحظ استخدام النسوية المعاصرة استراتيجيات تفكيكية لكي تزعزع استقرار النظام الثنائي الكامن في ثنائية المذكر/المؤنث، وتخلخل الهياكل الأساسية التي تقوم عليها هذه الثنائية، منعا للتمييز بينهما. ذلك يتيح للرجال والنساء المشاركة في التوصل إلى طرق جديدة لصياغة الذات المعاصرة. وقد اتهم الاعلام بالترويج لما بعد النسوية التي تعد حركة نظرية أكثر مما هي واقعية بل وتمثل "تفكيكًا" معرفيًا "تعدديًا".
إن أهم إنجاز للفكر النسوي الحديث هو تأكيده أهمية تجربة النساء والاستفادة منها فلسفيًا إلى جانب تجربة الرجال، إلا أن بعض النسويات اعتبرن أن ما بعد النسوية هو رفض لمكاسب النسوية ونضالاتها السياسية، وانتقدن ابتعادها عن العمل السياسي والاجتماعي. وهذا ما تؤكده جيرمين غرير .
في حين تؤكد سوزان فالودي في كتابها "الحرب غير المعلنة على النساء" 1999 أن موجة ما بعد النسوية هي رد فعل مدمر للمكاسب التي حققتها النساء في الموجة الثانية، وتضيف بأن انتماء النساء إلى ما بعد النسوية لا يعني أنهن وصلن إلى تحقيق العدالة والمساواة مع الرجال وتجاوزنها إلى ما هو أفضل.
في التسعينيات، اكتسبت الأفكار المتعلقة بالنوع صياغات جديدة مع ظهور دراسات الاختلاف الجنسي التي لا تُعنى بالنضال التحرري من أجل المساواة، بل تهتم بإثارة التساؤلات حول الأطر السائدة عن المعيارية القائمة على النوع، من أجل إعادة صياغة موقع الذات.
وتحاول النسويات الجديدات new feminists الربط بين المطالب المتعلقة بالنوع ونقد العولمة الليبرالية، ويرين في المنطق النيو ليبرالي – الداروينية الاجتماعية، وعدوانية السوق، ومعارك التنافس- تشجيعًا على العودة إلى العنف في العلاقات الإنسانية. ويدركن انه حين يحل العنف في المجتمع فان أولى ضحاياه هن النساء. لذلك هن يناضلن مع الرجال من اجل تغيير العالم نحو عالم أكثر عدلًا وسلامًا.
وتعتقد النسويات الجديدات أن بلورة الوعي في سبيل التغيير ستؤدي إلى استقطاب المزيد من الرجال إلى الحركة النسوية، مع العلم أن مهمة من هذا النوع ستكون ثورة فعلية، وستؤدي إلى إزالة أكثر المظالم عن المرأة، والى تحرير الرجال بدورهم من أدوار القمع والهيمنة التي يمارسونها، بهدف بناء مجتمعات عادلة يعيش فيها الجميع أحرارًا ومتساوين.
وفي هذه الموجة كتبت منظرات مثل بل هوكس داعية كذلك إلى تصدي النساء الملونات لمقولات النسويات البيض، التي تتسم بالهيمنة.
ما بعد النسوية العالمالثية:
تؤكد ما بعد النسوية العالمثالثية على الربط الوثيق بين القهر الجنسي والقهر الطبقي والعنصري والإثني والديني والنوعي. كما تقدم نقدًا حادًا للنسويات الغربيات اللاتي يدعين "معرفة" أوضاع النساء في دول العالم الثالث، رغم عدم بذلهن أي محاولة لفهم طبيعة هذه المجتمعات، كما في مقالة ليلى أحمد التي صدرت عام ١٩٨٢ عن "المركزية الغربية وتصورات الحريم" ومقالة تشاندرا موهانتي عن "البحوث النسوية والخطابات الكولونيالية"، التي تتهم الفكر النسوي الغربي بتوحيد كيان وفئة "المرأة" وتمثيل المرأة المسلمة ضمن فئة واحدة ثابتة، باعتبارها مقهورة تمامًا على مستوى العالم كله. كذلك سعت الكاتبة التركية ميدا ييغينوغلو في كتابها الهام "استيهامات استعمارية- نحو قراءة نسوية للاستشراق" إلى ايضاح تلك المفاهيم.*هامش (من منشورات دار الرحبة)
وقد انضمت الدكتورة نوال السعداوي في أبحاثها الأخيرة إلى هذا التيار.
وقد ساعد على زعزعة النضال النسوي في تلك الدول صعود التيار الأصولي بعد الفشل الذريع الذي منيت به التيارات القومية والماركسية في انتشال شعوب المنطقة من وهدة التخلف والفقر، وكان من الأهداف الأولى لهذا التيار محاربة تحرر المرأة والدعوة لعودتها إلى جدران البيت.
المراجع:
- "النسوية وما بعد النسوية"، سارة غامبل، المشروع القومي للترجمة، 2002
- "أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة"، فردريك انجلز، دار التقدم ، موسكو
- "الجنس الآخر" سيمون دي بوفوار، دار أسامة
- الحركة النسوية العالمية د. سهير سلطي التل
- "الحركات النسائية عام 2010 تطالب بفصل الدين عن الدولة" د. نوال السعداوي http://international.daralhayat.com/internationalarticle/120967
- "الحداثة وما بعدالحداثة"،سعيد المتدين
http://www.aljabriabed.net/fikrwanakd/n22_03mutadayin.htm
- "الدراسات النسائية/ دراسات الجندر"، ترجمة هالة كمال
http://sjoseph.ucdavis.edu/ewic/V1arabicparted/women_gender_studiedf
- "الفكر النسوي يسائل المنظومات الفكرية السائدة"، ناهد بدوية
- النسوية الثالثة، التعددية والاختلاف وتغيير العالم، ناهد بدوية
www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=165211
- "المواقف من النسوية أشكال رمزية لأخلاق سياسية محافظة" ، د. نهى بيومي
- "النبـــش هل يعيد الموءودة إلى الحياة؟" روزا ياسين حسن
http://thawra.alwehda.gov.sy/_archive.asp?FileName=9144954677114114
- "الفكر النسوي ورؤاه المتباينة في محاولة تغيير العالم" روزا ياسين حسن
http://thawra.alwehda.gov.sy/_print_veiw.asp?FileName=20345626720090929104138
- "تيارات الحركة النسوية ومذاهبها" نادية ليلى عيساوي
www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=1065
- "النسوية فكر وعمل"، د. فاطمة بابكر محمود
http://www.sudaneseonline.com/cgibin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=81&msg=1129193796&rn=
- الأسسُ الفلسفية للفكر النسوي الغربي في ثلاثة عقود، مقابلة لسركيس أبو زيد مع خديجة العزيزي
http://www.tahawolat.com/cms/article.php3?id_article=834
- الفكر النسوي الليبرالي، رجا بهلول
www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=20924
- النسوية وفلسفة العلم، د. يمنى طريف الخولي
http://www.alhadhariya.net/dataarch/dr-falsafyyah/index32.htm
- النسوية وما بعد النسوية، مي نايف
http://www.alwatanvoice.com/rabic/content-220.html
- النظرية الاجتماعية النسوية
http://www.thara-sy.com/thara/modules/news/article.php?storyid=510
http://www.thara-sy.com/thara/modules/news/article.php?storyid=511
- حركات النضال النسوية العالمية بين الأنوثة ووحدة النوع، د. رضا الموسوي
http://www.alsabaah.com/paper.php?source=akbar&mlf=interpage19424
- عن التيارات الفكرية في الحركة النسوية: من الليبرالية الى الماركسية، رجا زعاترة
www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid