• Avenue Pasteur 63, 10000

    Troyes, France

  • البريد إلكتروني

    info@musawasyr.org

#

الموجات النسوية العربية

الفصل الثاني من كتاب النسوية مفاهيم وقضايا

د. مية الرحبي

لا يحفل التاريخ المدون للشعوب العربية بالكثير الذي يمكن أن ينبأنا عن ردود فعل نسائية للاضطهاد الذي رافق سواد النظام الأبوي البطريركي، ولكن بالتأكيد لم تشذ أفعال النساء هنا عن الطبيعة البشرية في كل أنحاء المعمورة، فلابد أن اضطهاد النساء الذي فرضه ذلك النظام قوبل بمقاومة نسائية، تبدت بأشكال عديدة، تدلنا عليها بعض الحوادث المبعثرة هنا وهناك في الكتب التي حفظت تاريخ شعوب المنطقة، إذ لا ظلم دون مقاومة، ونجد بين صفحات التاريخ أيضا أخبار نسوة حكيمات، ونسوة مارسن مهنًا عديدة على رأسها الطب، وكانت لهن مكانة هامة في مجتمعاتهن، بل وصلن إلى سدة الحكم كبلقيس ملكة سبأ والزباء، وربما غيرهن، ممن أغفل التاريخ.

يؤكد لنا التاريخ المدون للعرب قبل الإسلام في شبه الجزيرة العربية تطابق السمات التاريخية  للقبائل العربية مع الأبحاث التي أجراها علماء الاجتماع وعلى رأسهم مورغان، والذين أثبتوا فيها وجود العصر الأمومي سابقا للنظام الأبوي البطريركي، فقد تباينت العلاقات الاجتماعية بين القبائل العربية تباينها بين قبائل الهنود الحمر الأمريكيين، الذين أجرى عليهم مورغان دراساته.

ساد في تلك الفترة نموذج العائلة البطريركية الأبوية في مرحلة ما قبل الدولة. ولم يكن تعدد الزوجات فقط، هو الميزة الرئيسة التي تتسم بها هذه العائلة، بل كان أيضاً، حسب مورغان "تنظيم عدد معين من الأشخاص، الأحرار وغير الأحرار، في عائلة تخضع لسلطة رئيس العائلة الأبوية. ففي العائلة السامية، يعيش رئيس العائلة هذا في ظل تعدد الزوجات، مع الإشارة إلى أنه كان للعبيد أيضاً زوجات وأولاد، وكانت غاية التنظيم كله رعاية القطعان، في حدود رقعة معينة من الأرض". إذاً فالسلطة الأبوية وضم العبيد هما الميزتان الأساسيتان لهذا الشكل من العائلة، حيث يملك الأب سلطة أبوية مطلقة، بل حتى حق الحياة والموت على جميع الأشخاص الخاضعين له. وقد شكل هذا الشكل من العائلة، عند الشعوب الشرقية الدرجة الانتقالية من المشاعية، إلى العائلة الأحادية في العالم المعاصر.

في هذه المرحلة من التطور الاجتماعي يعتبر هذا الشكل من العائلة امتيازًا للأغنياء والأعيان فقط، القادرين على شراء عدد من الزوجات والعبيد، أما سواد الشعب فيعيش حالة زواج أحادية تفرضها الظروف الاقتصادية، وهنا لا تكون علاقات الزواج وثيقة إذ تكثر حالات الطلاق، و الخيانات الزوجية. ويكون من السهل على كل من الطرفين أن يحل الرابطة الزوجية.

أتى الإسلام حاملا أفكارا متقدمة تتعلق بالنساء، كان من أهمها الإقرار بمنزلة إنسانية مساوية للرجل، إذ أكد على اعتبارها إنسانا كامل الأهلية، مساويا للرجل في الاعتبار والتكليف والأحكام، كما حرر المرأة من مسؤولية الخطيئة الأولى، وبالمقابل تشدد في تقييد حريتها الشخصية ضمن سياق الاتجاه نحو الزواج الأحادي، معززًا تماسك الأسرة نواة الدولة الوليدة، إذ قنن تعدد الزوجات، وربطه بشرط العدل شبه المستحيل، وحول مفهوم المهر من ثمن تقبضه العائلة إلى هدية للمرأة، وأوصى بمعاملة رفيقة بالنساء، وتقدم خطوات باتجاه ضمان حقوقها بعد الطلاق، ولكن بقي ذلك كله في نطاق منظومة القوامة التي تعطي للرجل مسؤولية الإنفاق مقابل حق الطاعة على المرأة.

وقد ظهر النزاع واضحا بين النساء اللاتي حاولن أن يتمتعن بالحقوق التي أقرها الإسلام لهن، وبين الرجال الذين حاولوا جاهدين التمسك بالحقوق، التي شهدوا تسربها من بين أيديهم، فكانت بداية المواجهات بين عمر بن الخطاب والنساء، وبين أبو هريرة وعائشة وبقية زوجات النبي عندما روى أحاديث عن النبي مسيئة للنساء.

فبعد أن قاتلت النساء من أجل الدعوة الجديدة التي رأين فيها مدافعا عن حقوقهن ونصيرًا لهن، ومارسن في البداية حريتهن في ارتياد المساجد والمشاركة في قرارات الدولة الجديدة، منين بالخسارة الأولى عندما فرض الحجاب على نساء النبي، وأقصيت النساء فيما بعد عن مركز صنع القرار. وتجلّت خسارة النساء الكبرى في هزيمة عائشة في معركة الجمل، والتي رويت أثناءها الكثير من الأحاديث ضد النساء وعلى رأسها "ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة".

هل صمتت النساء عن حقوقهن بعد ذلك؟

يشير التاريخ إلى أخبار متفرقة حاولت النساء فيها المقاومة واستعادة مكانتهن، مثالها سكينة بنت الحسين التي أنشأت صالونها الأدبي الخاص، والذي كان يرتاده شعراء وأدباء ذلك العصر، وكذلك ظهور شاعرات وعالمات ونساء لعبن دورًا سياسيًا هامًا في المراحل التاريخية التالية، إلا أن سمة تلك العصور كانت انمحاء الوجود النسوي من المجال العام، وانزواؤهن في أجنحة الحريم، التي ضمت زوجات وجواري الرجال الأغنياء، في حين بقي الزواج الأحادي سمة للطبقات الفقيرة وعامة الشعب، فتحولت المرأة إلى عبدة للرجل واقتصر دورها في الحياة على إمتاع الرجل وإنجاب الأولاد له، وحتى لو عملت لم تكن تقبض أجرة عملها بل الزوج، مالكها.

المرأة في الأندلس:

خرجت المرأة في الأندلس من إطار المجال الخاص إلى العام، فوجدت الأديبات والشاعرات ، كما ظهر الفكر الإسلامي المتنور على يد مفكرين إسلاميين، على رأسهم ابن رشد الذي وضع أسس التفكير العقلاني المتنور للإسلام، ودعا بالتالي إلى تحرر المرأة وأن تحتل المكانة اللائقة بها في المجتمع إنسانا كامل الأهلية منتجا فعالا، وأستطيع القول بان ابن رشد هو الذي وضع أسس مفهوم الجندر أو النوع الاجتماعي، وأسس تمكين المرأة والذي يتمثل في مقولته:

"علينا أن لا نخدع بأن المرأة تبدو في الظاهر صالحة للحمل والحضانة فقط ، فما ذلك إلا لأن حالة العبودية التي أنشأها عليها نساءنا، أتلفت مواهبهن العظيمة. يجب على النساء أن يقمن بخدمة المجتمع والدولة قيام الرجال، فإن الكثير من فقر العصر وشقائه، يرجع إلى أن الرجل يمسك المرأة لنفسه ، كأنها نبات أو حيوان أليف، لمجرد متاع فان، بدلاً من أن يمكنها من المشاركة في إنتاج الثروة المادية والعقلية وفي حفظها".

إلا أن بعد الحضارة الأندلسية عن باقي الدول العربية، حال دون امتداد تأثيراتها، وبالتالي اندثار أفكارها التنويرية، التي لم تستطع التصدي للتيار الظلامي الذي خيم على المنطقة العربية بكاملها، فاعمي القلوب والأبصار.

الموجة النسوية العربية الأولى:

عندما قامت الثورة الصناعية في الغرب، كانت المجتمعات العربية لا تزال خاضعة لأنظمة حكم إقطاعية عشائرية طائفية، تعاني من الاستعمار المهيمن على كافة أوصالها، ومن استبداد الحكام والولاة، الذين قاموا بنهب الثروات ومصادرة الحريات، وتركوا الشعوب في حالة مزرية من الفقر والتخلف والجهل. وكانت المرأة العربية، في أقسى أوضاعها المتردية، تنوء تحت وطأة التقاليد البالية، التي تركتها رهينة بيتها، تعاني من الجهل و العبودية، ما أبعدها نهائيًا عن المشاركة في الحياة العامة.
وللخروج من هذه الأوضاع الصعبة، حمل المتنورون العرب عبء المشروع النهضوي العربي. وعمت حركة النهضة العربية البلاد العربية بين سنة
 1820 و1914. وهي حركة تنبه فيها العرب إلى ماضيهم، وأدركوا واقعهم المتخلف، وسعوا لإحياء الماضي بما فيه من أصالة وتراث عربيين إسلاميين، وعملوا على تجاوز التخلف من أجل بناء مستقبل أفضل.

بدأت الحركة في مصر وبلاد الشام خصوصًا في لبنان وسوريا، ثم انتقلت بعد ذلك إلى كافة أنحاء البلاد العربية، وكانت فترة زاخرة بالتحديث الفكري والإصلاح. وحدثت  بدايتها نتيجة الصدمة الثقافية التي نجمت عن غزو نابليون لمصر عام 1798، وحملات الإصلاحيين من الحكام اللاحقين مثل محمد علي في مصر.

 وكان روادها قادة الفكر والتنوير، ودعاة التحرر السياسي والرقي الاجتماعي، الذي لا يمكن أن يكتمل إلاّ بتحرير المرأة، كجزء أساسي من تحرير المجتمع.
لقد كانوا يربطون بين تخلف المرأة وانحطاط المجتمع، ولهذا نقلوا قضية المرأة من وضعها الخاص، إلى إطارها العام، كقضية سياسية اقتصادية اجتماعية، مرتبطة بحركة النهضة العربية الشاملة.

فكريا:

أتى عصر النهضة العربية حاملًا بشائر الموجة النسوية العربية الأولى، والتي قادها رجال نهضويون، ونساء نهضويات، غبن التاريخ حقهن كالعادة، ولم يركز سوى على كتابات النهضويين الرجال، والذين، والحق يقال، كان لهم الدور الرئيسي في نهضة النساء آنذاك لأن صوتهم كان مسموعًا أكثر، ولأنهم حللوا أوضاع المرأة بدراسات أعمق مما فعلت الكاتبات، وقد كان منطلقهم النهوض بالمجتمعات من وهدة التخلف والجهل، وذلك لا يمكن أن يتم دون النهوض بنصفها المعطل.

ركز مفكرو تلك الموجة على:

  • حق النساء بالتعليم
  • حق النساء بالقيام ببعض المهن كالتمريض
  • حق النساء في نيل بعض الحقوق الأسرية كالمطالبة بإلغاء تعدد الزوجات، وتحديد حق الرجل المطلق في الطلاق.
  • السفور(وقصد به آنذاك فقط نزع الغطاء عن الوجه).

ويمكن تقسيم المفكرين النهضوين العرب إلى قسمين:

مفكرو حركة الاصلاح الديني :

وفي طليعتهم جمال الدين الأفغاني ( 1838-1897)، الذي دعا في كتاباته إلى إعادة قراءة النصوص الدينية استنادًا إلى العقل، والإمام محمد عبده (1849-1905) الذي تطرق في كتاباته إلى المسألة النسوية ودعا إلى اعتماد العقل منهجًا للتغيير، وعالج قضايا المساواة والزواج والقوامة، وأفتى بجواز إبطال تعدد الزوجات استنادًا إلى انتفاء العدل، وتقييد الطلاق وإقراره فقط في المحكمة أمام القاضي.

ويمكن ضم كتاب قاسم أمين الأول إلى هذه الفئة، إلا أنه اعتمد منهجًا تنويرًا في كتابه الثاني. وقد كتب في هذا الإطار كل من تتلمذ على يد الإمام محمد عبده، حتى أتى تلميذه رشيد رضا فحور مسار هذه الحركة باتجاه ديني متشدد تجاه المرأة، وأتى تلميذه حسن البنا، منظر حركة الإخوان المسلمين، ليعيدها فكريًا إلى إطار الحريم الذي كانت فيه قبل عصر النهضة.

حركة التنوير:

يعتبر خير الدين التونسي (1825-1890) أول من طرح الأفكار السياسية الداعية إلى للإصلاح السياسي والتقدم الاجتماعي، وقد صاغ أفكاره ضمن أول دستور وضعه للامبراطورية العثمانية.

وكان المعلم بطرس البستاني أكثر جرأة في طرح قضية المرأة، ففي خطاب له حول تعليم البنات، عام 1849 استنهض همة النساء إلى العلم، ليتمتعن بكرامة أكثر. وحثّ الرجال على إصلاح حالهن، وانتشالهن من أوضاعهن المتردية. بل أوجب، في خطاب آخر تعليم المرأة، وأبرز حقها فيه، وربطه بتعليم الرجل. وحدد لها ما يجب أن تتعلمه، وهو الديانة واللغة والقراءة والكتابة والجغرافيا والتاريخ والحساب، وكل ما ينفعها في تربية أولادها والاعتناء بأسرتها، وكل ما تحتاج إليه لتقوم بواجباتها، ولتساعد الرجل في البناء الاجتماعي.
واعتبر تعليمها الخطوة الأولى في إصلاح أحوال الناس والنهوض بالمجتمع.
لكن رفاعة الطهطاوي(1801-1873)، الذي كتب "تخليص الابريز في تلخيص باريس" وبين فيه إعجابه بما وصلت إليه المرأة الأوربية من تقدم بعد زيارته فرنسا، حصر في كتابه "المرشد الأمين للبنات والبنين" 1876 تعليم المرأة في أمرين:
1ـ أن يؤهلها لتصبح زوجة وأماً صالحة.
2ـ أن يمكنّها من ملء أوقات فراغها، التي تشكل مفسدة لها.

أما أحمد فارس الشدياق، في كتابه " الساق على الساق" 1852، فقد أباح للمرأة أن تتلقى بعض العلوم، التي ترفع مستواها الفكري، بحيث تمكنّها من محادثة الرجل والتعامل معه.
إذن، فقد بدأ الحديث عن قضايا المرأة العربية، منذ أواسط القرن التاسع عشر، واستمر يتطور، إلى أن ظهر كتابان مهمان لقاسم أمين (1863- 1908) في نهاية ذلك القرن. وتبرز أهميتهما من حيث أنهما أول كتابين تخصصا في قضايا المرأة، وتكلما عنها بشكل مباشر وصريح وجريء، ما أفسح لقاسم أمين مكان الريادة في هذا المجال؛
أولهما: "تحرير المرأة" 1899، الذي تجاوز الحديث المألوف عن مشاكل المرأة، ليربط قضيتها بالأوضاع الاجتماعية والنظام السياسي، فالوضع السياسي ينعكس على حياة الأسرة، وهي بالتالي تؤثر على الآداب الاجتماعية والقيم الأخلاقية. والحرية السياسية للرجل ترتبط بالحرية الذاتية للمرأة. إلا أنه ربط أسباب استعباد المراة في ذلك الكتاب بالعادات والتقاليد الشائعة في المجتمعين العربي والاسلامي، وتراجع دور العرب والمسلمين، وربط مطالب تحرير المرأة بالاجتهادات المستنيرة.
وقد أثارت هذه النظرة الجريئة المتطورة عن المرأة آنذاك موجة عاتية من الانتقاد تعرّض لها قاسم أمين من المتزمتين، الذين رأوا في الكتاب مؤامرة، وقد شارك في الحملة التي طالته الشيخ محمد عبده والأميرة نازلي فاضل.
ثانيهما: "المرأة الجديدة " 1900، وفيه رأى قاسم أمين أنّ سعي المثقفين العرب لتحقيق أسباب النهضة العربية، متأثرين بالنموذج الغربي، جعلهم يلمسون الهوة القائمة بين المجتمعات الغربية والشرقية، وخصوصاً في نظرتيهما المتباينتين إلى المرأة، وذلك ما يدعوهم إلى ضرورة رفع شأن المرأة العربية، وخاصة عن طريق التعليم، كي تناسب سويتها سوية الوضع الجديد للرجل، الذي أصبح أكثر علمًا ووعيًا وانفتاحًا ورغبةً في التغيير. وقد كان في كتابه الثاني أكثر جرأة فدعا إلى تحرر المرأة مستندًا إلى العلوم والفكر الاجتماعي الغربي والكتابات النسوية الغربية.
كذلك لابد أن نشير هنا إلى أهمية طروحات المفكر والمناضل التونسي الطاهر حداد، الذي مارس إلى جانب كتاباته نضالًا وطنيًا ونقابيًا، وأصدر عام 1930 كتابه الهام "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" ، والذي انطلق فيه من أن "المرأة كائن قائم بذاته" ودعا فيه إلى إعادة تقسيم الأدوار الاجتماعية في المجالين الخاص والعام، و توصل بعد قراءة جديدة مختلفة للنص الديني إلى نتيجة مفادها أن الإسلام دين عدل ومساواة، لذا فمن غير المعقول ألا ينصف المرأة، ولعل أهم طروحاته نسفه لمنظومة القوامة بدعوته المرأة للعلم والعمل، وكسب قوتها وبالتالي تحمل مسؤولية الأسرة بشكل مشترك مع الرجل، ودعا إلى إلغاء تعدد الزوجات، وتقيد الطلاق، وتحرير المرأة من الحجاب المعيق لحركتها في المجال العام.    

أما بالنسبة للأقلام النسائية فقد انتبه القراء والقارئات لأول مرة، إلى صوت المرأة، وإلى أدبياتها، عبر تلك المقالات التي نشرت في صحف بلاد الشام، في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، إذ أفسحت الصحف مجالًا لإسهامات المرأة التي عبرت عن مواقف جريئة، وعكست إسهامات واضحة في الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية. ومن هذه الصحف : جريدة "المقتطف" ببيروت 1876، قبل أن تنتقل إلى القاهرة، و "لسان الحال" و "الجنة" و "الجنان". وكتبت النساء آنذاك بدون توقيع، أو تحت اسم مستعار، أو بعنوان : "ترجمات من بعض الصحف الأجنبية"، ونادرًا بأسمائهن الصريحة ومنهن: مريانا مراش، وندى شاتيلا، ومريم مكاريوس، وروجينا شكري، وسلمى طنوس، وفريدة وأنيسة حبيقة، وجميلة كفروش، ومريم ليان، وغيرهن.
ورغم وجود هذا العدد الكبير من الكاتبات، فإن الشام لم تعرف أي صحيفة نسائية، حتى مطلع القرن العشرين، حين أصدرت ماري عجمي في دمشق، عام1910 "مجلة العروس" مستفيدة من جو الحرية الذي أعقب إعلان دستور 1908.

إلا أن هذه النهضة الفكرية التي سادت في الشام سرعان ماانتكست بسبب الظروف السياسية والفتن الطائفية واستبداد الحكام. وهكذا اضطر أولئك الرواد المتنورون إلى الهجرة خارج البلاد، ورحل عدد منهم إلى مصر، حيث ساد جو نسبي من الحرية، لم تعرفه الشام، وهناك فتحت الصحف المصرية المجال واسعاً للأقلام النسائية أو لتلك التي دافعت عن قضايا المرأة، كما شاركت في الحياة الثقافية التي انتعشت من خلال الصالونات الأدبية. ومن بين تلك الأقلام: زينب فواز، هند نوفل، هنا كوراني، الكسندرة الخوري، وردة اليازجي، لبيبة هاشم، لبيبة مخايل، وغيرهن.
كانت ماريانا مراش (1848- 1919) أول أديبة عربية تكتب في الصحف العربية (الجنة، الجنان، المقتطف، لسان الحال وغيرها) مقالات تمردت فيها على واقع المرأة، وثارت على أساليب الكتابة التقليدية، ودعت المرأة لمشاركة الرجل جميع مجالات العلوم والفنون، وقوّمت تقاليد بنات عصرها، وبثت في نفوسهن مبادئ الفضيلة والأخلاق والعادات الحميدة، وروح المدنية الحديثة، مستوحية ذلك من رحلاتها إلى الغرب، واطلاعها على حضارته. كما أنشأت أول صالون أدبي في عصر النهضة العربية الحديثة.
طالبت الأقلام النسائية بالنهوض بأوضاع المرأة العربية، أسوة بالمرأة الغربية، عن طريق تنمية وعيها، وصقل شخصيتها، والارتقاء بإمكاناتها الثقافية والذاتية، ودعتها للمشاركة في القضايا القومية، والنضال الوطني المعادي للاستعمار.
وكانت زينب فواز (1846- 1914) أول الأصوات النسائية، التي طالبت بالمساواة، ودعت المرأة للدفاع عن الحقوق الوطنية ومقاومة الاحتلال، ومقاطعة البضائع الأجنبية، ومشاركة المرأة في العمل السياسي وتكوين الأحزاب. تبدو في كتاباتها دعوة تنويرية غير مسبوقة لتحرير المرأة، ودفاع عنيد عن حقوقها، ومعالجة لشتى الموضوعات الاجتماعية والإنسانية والسياسية، فكانت الداعية الأولى لنهضة المرأة وتحررها ومساواتها بالرجل في العلم والعمل والسياسة والاجتماع. وفيها خرجت عن إطار الدعوات التقليدية، إلى الدعوة لسن قوانين وتشريعات، تنظم حياتها، وتؤكد حقوقها.
كانت زينب فواز أول رائدة عربية تحمل رسالة المرأة العربية بنفسها، وتطرحها أمام المجتمع بجرأة لا مثيل لها.
دعت زينب فواز المرأة العربية للمشاركة في الجمعيات والمعارض والمؤتمرات الدولية، وخصوصاً مؤتمر النساء العالمي، الذي انعقد في سانتياغو في التشيلي عام 1893، لدراسة شؤون المرأة وحقها في التعليم.
في هذا المؤتمر صوّتت المشاركات على قرار يحدد تعليم المرأة، ويحصر نشاطها في منزلها، فانتقدت زينب هذا القرار والمشرفات على المؤتمر، وأكدت على وجوب إطلاق المرأة في شتى المجالات الإنسانية، وخصوصًا العلم.
وساهمت في نشاطات الحزب الوطني، بزعامة مصطفى كامل، الذي دعا إلى خروج الإنكليز من مصر، إلى أن توفيت في عام 1914.
وهي صاحبة أول رواية عربية "حسن العواقب"، أو "غادة الزهراء" 1899. أكدت فيها على ضرورة العلم والعمل للمرأة، وعلى احترام عقلها، وعلى حقها في اختيار أسلوب حياتها.
وكانت هند نوفل أول امرأة عربية تصدر صحيفة نسائية. ومع أن مجلتها "الفتاة" 1892 توقفت بعد سنتين من صدورها، إلا أنّها تركت أثراً مهماً في صحافة المرأة العربية.
أما الكسندرة الخوري أفرينوه (1872 ـ 1927)، فقد أنشأت مجلة "أنيس الجليس" 1898 التي دافعت فيها عن حقوق المرأة، ودعت إلى نشر العلوم النافعة والمبادئ الخيرّة، الكفيلة بحياة سعيدة راقية لكلا الجنسين. انتدبت لتمثيل المرأة المصرية، في معرض جمعية السلام النسائية في باريس عام 1900، وكان لها حضور ملفت، وحظيت بحفاوة فائقة.

ومن الرائدات النسويات أيضا، اللاتي كتبن في الصحف المصرية:
عائشة تيمور(1840 ــ 1902) وهي من الرائدات اللواتي نشرن مقالات أدبية في الصحف، في القرن التاسع عشر، وكانت من النساء السافرات (كاشفات الوجه)، نشرت ديوانًا شعريًا تعاطفت فيه مع قضايا المرأة.

ملك حنفي ناصف أو "باحثة البادية" (1886-1918) شاعرة، وكاتبة. ساهمت في نشر الوعي النسائي عبر مهنة التعليم التي مارستها، ألفت كتاب (النسائيات) وكتاب (حقوق المرأة) لكنها لم تصل بكتاباتها الى ماوصل وطالب به قاسم أمين آنذاك.

لبيبة قاسم (1880-1947) عملت بالصحافة واستطاعت اصدار مجلة فتاة الشرق، وعملت كمفتشة لمدارس البنات. لعبت دورًا هامًا في مسألة حق المرأة في التعلم، وتلتها نبوية موسى حيث كان لهما دورًا تربويًا هامًا.

وتعتبر نظيرة زين الدين (1908-1976) من لبنان، من أوائل النساء المسلمات اللواتي طالبن في أوائل القرن العشرين بحقوق المرأة وتعليمها وتثقيفها، واعتبرت أن "صرح الانسان النافع لاتبنيه الا الحرية في مدرسة العالم، والا كان علمًا ناقصًا ضارًا" وألفت كتابًا عن(الحجاب والسفور)، ما أثار عليها هجوم واحتجاج رجال الدين، فاتهموها بالالحاد،علمًا أنها ابنة القاضي والشيخ سعيد زين الدين، وكانت ترى أن "للمرأة أن تشارك في الحكم الشعبي، ولها الحق الصراح في المشاركة بالاجتهاد الشرعي تفسيرًا وتأويلًا"، واعتبرت أن كل التفسيرات الموجودة بشأن الحجاب لاتتشابه، ولا تستند لدليل يؤيد مايفسرونه، مع الاختلاف والتضارب بينهم، كما ألفت كتابًا آخر باسم (الفتاة والشيوخ).

وفي تونس ظهرت منوبية الورتاني وحبيبة المنشاري، اللتان ساهمتا منذ العشرينات من القرن العشرين، في حركة نسائية تنويرية، فقد تجرأت منوبية الورتاني إلى الدخول سافرة الوجه لحضور ندوة عقدتها جمعية "الترقي" 1924 تحت عنوان "مع أو ضد الحركة النسوية حيث ألقت مداخلة هاجمت فيها الحجاب، ودعت كل التونسيات إلى التحرر منه. وأعادت نفس الجمعية ندوة أخرى تحت نفس العنوان عام 1929, ألقت فيها السيدة حبيبة المنشاري مداخلة دعت فيها إلى تحرر النساء، ودعت النساء التونسيات إلى التحرر من الحجاب والمساهمة في الحياة العامة.

ميدانيا:
مرحلة النهضة الأولى:

استلم محمد علي باشا (1805-1848) الحكم في مصر حاملًا مشروعًا نهضويًا، كان أحد ركائزه التعليم، واعتمد على الخبرات الأجنبية في إقامة المؤسسات التعليمية. وأرسل البعثات إلى إيطاليا وفرنسا وانجلترا والنمسا، لكنّها اقتصرت على الرجال، ما أبقى الوضع التعليمي للمرأة مزريًا. لذا ارتبط تعليم البنات في الشام ومصر بداية بالإرساليات الأجنبية.

أنشأ محمد علي مدرسة القابلات الصحية، وأتاح الفرص لتدريب الفتيات في مصانع الغزل والنسيج، وأنشأ الخديوي اسماعيل أول مدرسة للبنات (السيوفية) 1873، متأخرة عن المدارس التبشرية سنوات عدة.
وفي عام 1834 افتتحت الإرسالية الأمريكية أول مدرسة لتعليم البنات في بيروت. وبعد عشر سنوات أنشأت إحدى البعثات التبشيرية مدرسة للبنات في القاهرة. ثم توالى التسابق إلى إنشاء المدارس الأجنبية في الشام ومصر، ما دفع الأهالي إلى التفكير في منافسة التعليم الأجنبي، فبدأوا في إنشاء مدارس وطنية خاصة للبنات فيهما.
لكن مسألة تعليم المرأة، ظلت محصورة حتى مطلع القرن العشرين، في بنات الأسرة الحاكمة، وعائلات الموسرين وكبار الموظفين والحكام. ورغم ذلك نشأت طبقة متعلمة منهن، بدأت تتحدث عن دور المرأة في النهضة وتقدم المجتمع، وكانت الصحف هي المجال الأرحب للتعبير عن آرائهن.
كما تجدر الإشارة هنا إلى تجربة التحديث التونسية في عهد احمد باي (1855-1837) التي قدمت إصلاحات إدارية وسياسية.

في تلك المرحلة بدأ تأسيس الجمعيات النسائية؛

تأسست أول جمعية نسائية في مصر1881، وفي نفس العام تأسست في سورية أول جمعية هي "زهرة الإحسان" على يد لبيبة جهشان، ثم توالت الجمعيات في كل المشرق العربي، وتأخرت في المغرب حتى بداية الثلاثينيات من القرن العشرين، والخمسينيات في البحرين، والستينيات في بقية دول الخليج العربي.

وهنا لابد من الإشارة إلى تجربة مميزة هي تجربة الرائدة هدى شعراوي التي أسست جمعيات متعددة بدءا بجمعية مبرة محمد علي 1908 وحتى جمعية "المرأة الجديدة" والتي كان الهدف منها إتاحة الفرص لإبراز المواهب الفكرية والفنية للنساء كأساس للتربية النسائية الحديثة.

مرحلة التحرر الوطني:

وهي المرحلة التي سيطر فيها الاستعمار الغربي على الدول العربية، فسلب منها السيادة والثروات الوطنية واستخدم مواقعها الاستراتيجية الهامة خدمة لمصالحه، إلا أن ذلك استنهض الشعور الوطني لدى الشعوب العربية التي استجابت إلى دعوات المفكرين والقادة الوطنيين، ما أدى إلى زعزعة البنى المجتمعية العربية القائمة على العشائرية والطائفية، وأتاح للمرأة الخروج من الإطار الخاص إلى الإطار العام للمشاركة في معركة التحرير الوطني التي تطلبت بالضرورة نهضة اجتماعية، كان من بين شعاراتها النهوض بالمرأة.

ساهمت المرأة في تلك الفترة في النضال الوطني ضد المستعمر وقامت الكثير من الجمعيات النسائية التي وضعت في أهدافها مطالب تحرير المرأة بجانب المطالب الداعية إلى تحرير الأوطان، إلا أن المطالب الثانية طغت على الأولى بحيث خاضت النساء عبر تلك الجمعيات نضالًا وطنيًا، ودعمن المقاومة الوطنية بجمع الأموال وإسعاف الجرحى، وإمداد المقاومين بالاحتياجات والمعلومات.

في تلك المرحلة اجتمعت عدة جمعيات في اتحادات، من بينها الاتحاد النسائي في سورية ولبنان 1924 ، والاتحاد النسائي المصري 1923، والاتحاد النسائي في القدس 1919.

صفات النضال النسائي في تلك المرحلة:

  • انتمت أغلب الناشطات إلى أوساط اجتماعية ارستقراطية أتاحت لهن التعلم؛
  • جمعتهن القرابة مع مؤسسي الحركة الوطنية؛
  • لم تمنع غلبة الصفة الرعوية والخيرية على كون هذه الجمعيات الأساس الذي دفع النساء إلى دخول المجال العام والنضال السياسي؛
  • اعتمدت تلك الجمعيات على الفكر النهضوي العربي في صوغ مطالبها؛
  • اعتبر الحديث عن مطالب نسائية بحتة تشتيتاً للنضال الوطني الذي يجب حشد جميع الجهود له؛
  • استفادت الحركة النسائية العربية من تلك التجارب النسائية المبكرة، في حشد جهودهن، وتطوير قدراتهن على التنظيم والانضباط وتعزيز الاحساس بالمواطنة وأهمية العمل الجماعي؛
  • اطّلعت الحركة النسائية في تلك الفترة على التجارب النسائية العالمية من خلال المؤتمرات العالمية، ما أنضج وعيها أكثر.

ساهم احتكاك النساء بالرجال في غمار العمل النضالي والسياسي في بلورة وعيهن بخصوصية قضية المرأة وحتمية النضال النسائي المستقل. وقد بدأ ذلك بتجربة النساء المصريات  فبعد ثورة سعد زغلول عام 1919 ، وعلى الرغم من مشاركة هدى شعراوي كعضوة في الوفد، لكنه لم يشركها هي أو غيرها من النساء في الحكم، ما اضطرها للانشقاق عن الوفد وتشكيل جمعية الاتحاد النسائي، وعندما جاء دستور 1923 خاليًا من أي نص حول حق المرأة بالترشيح أو الانتخاب، شاركت النساء  في حركة احتجاج قوية للمطالبة بإلغائه، ما مكن من انتزاع أول قانون ينظم عمل النساء عام1933. وكانت من نتائج ذلك تأسيس الحزب النسائي المصري على يد فاطمة نعمت راشد 1942، الذي نادى بالمساواة الكاملة بين الجنسين، وتبنى قضايا النساء من مختلف الطبقات، إذ دعا إلى مساواة العاملات بالعمال في الحقوق بما فيها المشاركة بالنقابات، كما دعا إلى تعديل قانون الأحوال الشخصية.

في تلك المرحلة برزت التنظيمات النسائية المتأثرة بحركة الإخوان المسلمين. وكذلك التنظيمات النسائية المتأثرة بالفكر الشيوعي.

الحركات النسائية في مرحلة الاستقلال:

وهي فترة بناء الدولة الوطنية، في الأربعينيات الخمسينات من القرن الماضي، عندما بدأت الدول العربية تنال استقلالها تباعًا.

بقيت الحركات النسائية في هذه الفترة مندمجة بالحركة السياسية، وبقيت سماتها العامة مماثلة لمرحلة التحرر الوطني التي ذكرناها سابقا، حيث اندمجت المرأة في العمل السياسي، وبقيت الجمعيات النسائية ترجح أهمية المطالب الوطنية على المطالب النسوية.

 تزايد عدد الجمعيات النسائية في تلك الفترة باضطراد، وخاصة الجمعيات المتأثرة بالأفكار الدينية أو الشيوعية، واحتلت القضية الفلسطينية مكان الصدارة من اهتمام التنظيمات السياسية والجمعيات النسائية.

ونتيجة لانخراط المرأة في الحياة السياسية والنضال الوطني استطاعت الحصول على مزيد من الحقوق السياسية، وخاصة حقيّ الترشيح والانتخاب، اللذين نالتهما المرأة في أغلب الدول العربية تباعًا، ولكن دون أن يترافق ذلك بتعديل للقوانين الحاكمة لحياة النساء في المجال الخاص.

مرحلة الأنظمة الشمولية:

وهي المرحلة التي استولى فيها الجيش في أغلب الدول العربية على مقاليد السلطة، وامتدت من خمسينيات إلى سبعينيات القرن الماضي، وهي الأنظمة التي حدت من الحريات العامة وبالتالي عطلت عمل الجمعيات غير الحكومية، والصحف والمجلات، وأيّ نشاط غير منضوٍ تحت سيطرة الدولة، و قضت بالتالي على أي نشاط مدني، وحُصر النشاط النسوي في اتحادات نسائية تسيطر عليها الدولة سيطرة تامة، رغم صفتها ك "منظمات شعبية" بحيث انتفى أيّ دور لها في المطالبة بحقوق النساء، واقتصر دورها على الإشادة بالانجازات الوهمية التي قدمتها السلطات الحاكمة للنساء.

 أما الصفة الثانية لتلك الأنظمة فهي الإصلاحات الاجتماعية والثقافية التي طالت جميع طبقات وشرائح المجتمع، ما أتاح التعليم لفئات اجتماعية كثيرة لم يتح لها التعليم سابقًا، خاصة في الريف، وشمل ذلك النساء، وترافق مع التأميم والإصلاح الزراعي، ما ساهم في زيادة الوعي لدى أبناء الريف، الذين كانوا منقطعين عن التطور الحضاري الذي شمل المدن في المراحل السابقة.

وقد قادت هذه التغيرات آليًا إلى مزيد من مساهمة النساء في الحياة العامة في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية، ومزيد من انخراط النساء في سوق العمل، خاصة بعد صدور قوانين التأمينات الاجتماعية التي حفظت حقوق العاملات، ومنحت تمييزًا إيجابيًا للمرأة في حقوق الأمومة.

إلا أن ذلك التطور الذي طرأ على وضع المرأة في المجال العام، لم يترافق بتطور كبير على وضعها في المجال الخاص، إذ بقي قانون الأحوال الشخصية متخلفًا، ولم تنل المرأة حتى المطالب التي بدأت المطالبة بها منذ بدايات عضر النهضة كإلغاء تعدد الزوجات، وحصر الطلاق في المحكمة. وبقيت منظومة القوامة، المعززة قانونيًا، سائدة في الأسرة رغم تعلم المرأة وعملها، وبقيت القوانين المجحفة بحق المرأة سارية دون أي تعديل يذكر، وبقيت العلاقة بين المرأة والرجل في المجالين العام والخاص محكومة بالتوزيع غير العادل للأدوار الاجتماعية.

ونتيجة لذلك شكل خروج المرأة للعمل خيبة كبيرة للنساء اللاتي لم يحقق لهن الاستقلال الاقتصادي أي مكاسب على صعيد قيمتهن الاجتماعية، ولم يحقق لهن العمل خارج المنزل سوى المزيد من الجهد نتيجة تحملهن وحدهن أعباء العمل المنزلي، كما أن أغلب الأعمال التي اضطلعت بها النساء في هذه الفترة كانت امتدادًا لأدوارهن الاجتماعية كالتعليم والتمريض.

وربما تفاوتت الصورة بين بلد عربي وآخر، كتونس والسعودية، اللذان شكلا قطبي وضع النساء، حيث صدرت في تونس "مجلة الأحوال الشخصية" 1956 محتوية أحكامًا رائدة لصالح المرأة، بينما بقيت المرأة في السعودية محرومة حتى من البطاقة الشخصية وحرية السفر دون محرم وقيادة السيارة...الخ. وبينهما تراوحت أوضاع المرأة في الدول العربية بتدرج بسيط لا يشكل فروقا جوهرية، خاصة من الناحية القانونية.

ويلاحظ في المراحل الثلاث السابقة تراجع زخم الأعمال الفكرية التي خصصت لمناقشة أوضاع المرأة بسبب إعطاء الأولوية لقضايا التحرر الوطني، والإصرار على إلغاء خصوصية قضية النساء من قبل جميع التيارات الفكرية التي سادت في تلك الفترة، كالتيار القومي والديني والماركسي، التي رأت أن قضية ومشاكل النساء يجب أن تعالج وتحل من منظور قضية المجتمع ككل.

الموجة النسوية العربية الثانية:

بدأت تلك الموجة في نهايات السبعينات من القرن الماضي مترافقة مع تغيرات هيكلية في الأنظمة والمجتمعات العربية بتبني سياسات الانفتاح الاقتصادي وتشجيع القطاع الخاص، بعد تراجع دور الاتحاد السوفياتي الذي انتهى بسقوطه، وتصاعد الليبرالية الجديدة ونظام القطب الواحد، والعولمة الاقتصادية. وظهرت برامج الإصلاح الهيكلي، التي أدت نتيجة إهمال العنصر الاجتماعي والبشري إلى إفقار شريحة كبيرة من المجتمع وتدهور أوضاع الطبقة الوسطى. وعلى الصعيد السياسي حافظت الأنظمة السياسية على صفة الشمولية، وانعدام الديمقراطية. ولجأت العديد من الدول ذات النظام الشمولي إلى استبدال سياسة الحزب الواحد بإنشاء جبهات مؤلفة من أحزاب متعددة إلا أنها بقيت جبهات شكلية في ظل هيمنة حزب السلطة.

كما تعاظم في هذه المرحلة النفوذ الأجنبي السياسي والعسكري، وتبنت الولايات المتحدة الأمريكية، التي تمثل أعتى نظام عسكري ذكوري مشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي طرح شعارات شكلية يبرر بها هيمنته على المنطقة (حرية، تعليم، حقوق المرأة) لشعوب الدول الممتدة من أفغانستان وحتى المغرب، في نفس الوقت الذي غزت فيه أمريكا بعض هذه الدول، تحت اسم مكافحة الإرهاب، بقوة عسكرية هائلة لم يشهد لها التاريخ المعاصر مثيلًا، مسببة الموت والدمار. وكما دائما فقد كانت الضحايا الأكثر بؤسا لهذا الاستعمار النساء اللاتي قتلن وأصبن واغتصبن وشردن وفقدن أحبتهن ومعيلي أسرهن، في الوقت الذي كان قادة النظام العسكري الأمريكي يتابعون مبادراتهم وخطاباتهم الموجهة للنساء في تلك الدول واعدين إياهن ب"الحرية" ودعم نضالهن في سبيل استعادة حقوقهن!!!

 تميزت هذه الفترة بتنامي التيار الأصولي، بعد الفشل الذريع الذي منيت به التيارات القومية والماركسية في انتشال شعوب المنطقة من وهدة التخلف والفقر، والذي وضع في قائمة أولوياته إعادة المرأة إلى داخل جدران البيت وقصر مهمتها على الدور الانجابي، وقصر تعليم النساء أو عملهن في أحسن الأحوال على الأعمال والمهن التي  "تناسب المرأة"، من وجهة نظرهم، أي التي تمثل امتدادًا لأدوارهن الانجابية. واعتبرت تلك التيارات أن أصل بلاء مجتمعاتنا وشرورها ومصائبها هي انفلات النساء وعدم التزامهن بقواعد دينهن التي وضعها لهن الفقهاء، وشددت على ارتدائهن للحجاب معتبرة إياه الفريضة السادسة، وحرمت الاختلاط، واعتبرت تلك التيارات أن المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق النساء مناقضة لمبادئ الشريعة الاسلامية، هدفها الفسق والفجور والعلاقات المثلية... الخ.

فكريا:

تميزت تلك الفترة بتنامي الفكر النسوي، الذي تأثر بالفكر النسوي المعاصر، نتيجة حركة الترجمة الكثيفة التي شملت الساحات الثقافية العربية في الستينات والسبعينات، وتُرجم أثناءها أعداد هائلة من الكتب السياسية والاقتصادية والفلسفية والاجتماعية، ومن بينها الكتب النسوية الماركسية والوجودية والنفسية.

كما تميزت تلك الفترة بظهور منظرين نسويين بأعداد كبيرة غلب عليهم العنصر النسائي، أنتجوا أبحاثًا وكتبًا ودراسات على درجة كبيرة من الأهمية.

انقسمت الكتابة في الفكر النسوي المعاصر عن موضوع المرأة إلى قسمين أساسيين:

مشاريع فكرية نسوية:

 نالت الكاتبة نوال السعداوي الريادة هنا بكتابيها الهامين " المرأة والجنس" 1969 و"الانثى هي الأصل"، 1971، بحيث يمكننا الجزم بأنه لا يوجد نسوية عربية معاصرة لم تتأثر بكتاباتها آنذاك، وتتلمذت على كتبها. وقد وضعت نوال السعداوي في كتبها خلاصات إطلاعها على الفكر النسوي الغربي، بحيث مزجت الفكر النسوي الماركسي بالوجودي وبنسوية التحليل النفسي، إلا أنها تبنت، في طرحها لحلول القضية النسوية، الفكر الماركسي، الذي ربط حل قضية النساء بالتغيير الاجتماعي الجذري على صعيد علاقات الانتاج. ويحسب لنوال السعداوي أنها فتحت عقول الكثيرين على إمكانية تناول قضايا النساء من منظور نسوي، إلا أنها لم تعن بإطلاع القارئ المهتم على المدارس والمناهج الفكرية النسوية التي استقت منها الكثير من أفكارها، والتي كان يمكن ان تؤسس لجيل من الباحثات والباحثين يمكن أن يغنوا الفكر النسوي العربي في تلك الفترة، إذ تأخر ذلك حتى نهاية الثمانينات،عندما تعرف القارئ العربي على الفكر النسوي عن طريق باحثات وباحثين آخرين.

وهنا لابد أن نشير إلى المشروع الفكري النسوي لفاطمة المرنيسي في كتابيها "الحريم السياسي: النبي والنساء" الذي نشر سنة 1987، و "الخوف من الحداثة : الإسلام والديمقراطية" الذي نشر سنة 1992، وفيهما أعادت قراءة التجارب الفكرية السياسية التي نظّرت لأوضاع النساء في التاريخ العربي الإسلامي، وصولًا إلى الواقع المعاصر بقراءة سياقية تاريخية علمية.

وقد ظهرت كتابات نسوية متخصصة على أيدي كاتبات عديدات كالأبحاث المتعلقة بالعنف ضد المرأة، أو تمكين المرأة. وبرزت أسماء عدة في هذا المجال نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: سهير وصفي التل، منى فياض، رفيف صيداوي، حنان نجمة...

كذلك بحث رجال علمانيون في القضية النسوية مثل هشام شرابي، الذي كشف في كتابه "النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي"، عن أسباب تخلف المجتمع العربي، وبما أن حجر الزاوية في النظام الأبوي (والأبوي المستحدث) هو استعباد المرأة، فقد وضع المفكر تحرير المرأة من العبودية شرطًا من شروط القضاء على التخلف، موضحًا أنه رأس حربة التغيير الاجتماعي والثقافي؛ ما يجعل هناك ضرورة ملحة لوضع قضية تحرير المرأة، على رأس جدول أعمال حركة التحرر العربية بأشكالها كافة.

وكتب بو علي ياسين "حقوق المرأة في الكتابة العربية منذ عصر النهضة"، وحسين عودات "المرأة العربية في الدين والمجتمع"، وغيرهم. كما ظهرت الكثير من  البحوث النسوية الانثربولوجية كما في "لغز عشتار" لفراس سواح، والنسوية اللغوية كما في "المرأة واللغة" لعبد الله الغذامي.

ويلاحظ هنا التفوق النوعي والكمي للأقلام النسائية التي كتبت عن قضية المرأة على الأقلام الرجالية، على عكس الموجة النسوية الأولى، ولايعكس ذلك قلة اهتمام الرجال بالموضوع، بل زيادة عدد المفكرات نتيجة ازدياد أعداد النساء المتعلمات، اللاتي أصبحن مؤهلات أكثر لتحسس قضايا المرأة والتعبير عنها، ففي حين "يخلط الرجال بين الموضوع والمعنيات به، أي النساء، فنراهم يستأسدون عليه بالمغالاة في تنظير غير مبرر" تقف النساء على طرف نقيض إذ "تشعرك أبحاثهن وكأنهن يسبحن في بحر دافئ، لايحتاج إلى أكثر من تسجيل تموجاته المألوفة" حسب رأي دلال البزري وعزة بيضون في "العمل الاجتماعي والمرأة" .

حركة الاصلاح الديني الحديثة:

انبرى مجموعة من المفكرين وأغلبهم من الرجال في إعادة قراءة وتأويل النص الديني المتعلق بالنساء، بقراءة مبنية عل العقل والاعتماد على مصادر الشريعة الأساسية، في محاولة لاستنباط جوهر الشريعة القائم على العدل، ونقض كل التفسيرات الفقهية التي نصبت من الإسلام عدوًا أساسيًا للمرأة وتحررها.

نذكر من أولئك المفكرين نصر حامد أبو زيد، في كتابه "دوائر الخوف قراءة في خطاب المرأة"، الذي اعتمد على القراءة السياقية التاريخية لإعادة قراءة التاريخ الاسلامي وموقفه من المرأة، ومحمد شحرور الذي أعاد تأويل النصوص الدينية المتعلقة بالمرأة معتمدا منهجا لغويا عقلانيا، وبحث في موضوع المرأة بشكل مفصل في كتابه "نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي – فقه المرأة.."،  والمستشار محمد سعيد العشماوي في كتابه "حقيقة الحجاب وحجية الحديث"، الذي ينفي فيه إلزام الإسلام المرأة بالزي المطروح حاليا كلباس إسلامي في مناظرات بينه وبين شيخ الأزهر، تبين من خلالها ضعف حجة الأخير. ومقالات د. محمد عابد الجابري.

ميدانيا:

في هذه الفترة ظهر واضحا اهتمام منظمة الأمم المتحدة بقضية المرأة التي تجلت بأقصى أشكالها في اتفاقية السيداو ومؤتمر المرأة الرابع في بكين، الذي صدر عنه منهج عمل بكين، والذي أعقبه مؤتمر كل خمس سنوات لمراقبة تنفيذ هذا المنهج.

شكّل تبني الأمم المتحدة لقضايا المرأة في هذه المرحلة ضغطًا دوليًا على الحكومات العربية، ما جعلها تدخل الشعارات التي طرحت في اتفاقيات ومؤتمرات المرأة ضمن سياساتها واستراتيجياتها، إلا أن ذلك التبني كان في أغلبه شكليًا. وكان للتحفظات التي وضعتها على اتفاقية السيدو دورًا رئيسيًا في فسح المجال للدول للتملص من التزاماتها التي تلزمها بتغيير قوانينها وأنظمتها لصالح المرأة.

كما كان للثورة المعلوماتية ثأثيراً هاماً على الحركة النسائية، شجع التواصل بين الحركات النسائية، وتشكيل الشبكات وتعميم الوعي والمعرفة بقضايا المرأة.

وعلى الصعيد الرسمي شكلت منظمة المرأة العربية تحت مظلة جامعة الدول العربية، ومركز المرأة العربية للتدريب والبحوث.

 بقي عمل الجمعيات في تلك الحقبة مكبلًا بشروط الأنظمة الشمولية، التي منعت ترخيصها أو حاصرت نشاطاتها، وضغطت على أعضائها، ضغوطًا وصلت إلى حد الاعتقال في بعض الحالات، كما ظهرت أشكال جديدة للعمل المدني في ظل استمرار هيمنة الدولة على الحراك المجتمعي، تجلى في تجمعات مدنية غير مرخصة، عمالية وطلابية ونسائية، أخذت شكل وتسمية "لجان"، وتراوحت اتجاهاتها بين الديني والقومي والليبرالي والديمقراطي.

تميزت المنظمات والتجمعات النسائية التي ظهرت في هذه الفترة باستقلاليتها عن جميع الايديولوجيات التي هيمنت على الفترات السابقة، وتبنيها "الفكر النسوي" المطالب بالمساواة الكاملة بين الجنسين القائمة على مفهوم النوع الاجتماعي، واعتماد مرجعياتها الحقوقية على الاتفاقيات والمعاهدات الدولية.

أدت هيمنة الأنظمة الشمولية على المجتمعات العربية لسنوات طويلة إلى تقلص الحراك المجتمعي والمنظمات المدنية إلى حدود دنيا، ما أتاح الفرصة للتيار الأصولي للتغلغل داخل المجتمعات العربية والسيطرة على شرائح اجتماعية واسعة.

وعندما فرض على تلك الدول سياسات انفتاحية بتأثير الخارج، بات العمل المدني مشوبا بالكثير من الصعوبات والعراقيل، أولها:

  • غياب الديمقراطية السياسية، والتي تشكل المناخ المهيء لنشوء وتطور العمل المدني المؤسسي؛
  • طبيعة التجمعات المدنية الجديدة المؤلفة من نخبة مثقفة تعاني انفصالًا حادًا عن مجتمعاتها؛
  • غياب تقاليد ومفاهيم الديمقراطية والعمل المجتمعي؛
  • غياب مفهوم جدلية التطوع والالتزام؛
  • تسلق بعض المنتفعين على قضايا اجتماعية بغية الاستفادة من دعم المنظمات الخارجية لها.

إرهاصات الموجة النسوية العربية الثالثة:

يمكننا حصر تأثيرات الموجة النسوية الثالثة الغربية أو ما بعد النسوية على الكتابات النسوية ما بعد الحداثوية، التي ظهرت في بدايات القرن الحالي، وخاصة في مجال الأدب، وقد بقي تأثير هذه الموجة ثقافويًا محصورًا في الآراء المتبادلة بين مثقفي النخبة.

مثلت تجربة "باحثات" لباحثات لبنانيات، التي أُعلن عند تأسيسها 1995  إحدى تجارب النسوية العربية الثالثة، التي أعلنت عن رغبتها في تطوير "ملكة الرغبة في الاستكشاف"، و "النظر" "وقبول الاختلاف" و "مقارعة البديهيات" من أجل تطوير فكر نسوي عربي.

ولكن ظهر في نفس الوقت تيار النسوية العالمثالثية الحديثة التي أكدت على الربط الوثيق بين القهر الجنسي والقهر الطبقي والعنصري والإثني والديني والنوعي. قدم هذا التيار نقدًا حادًا للنسويات الغربيات اللاتي يدعين "معرفة" أوضاع النساء في دول العالم الثالث، رغم عدم بذلهن أي محاولة لفهم طبيعة هذه المجتمعات، كما كتبت آسيا جبار.

وأعتقد أن خير من يمثل النسوية العالمثالثية العربية نوال السعداوي في مقالة لها في جريدة الحياة 2010، تقول فيها:
"أدركت النساء في الجنوب والشمال والشرق والغرب الترابط الوثيق بين تصاعد القوى الدينية الداخلية وتصاعد القوى الاستعمارية الخارجية. تضامنت النساء لضرب الاستعمار الخارجي والداخلي معًا، السياسي الاقتصادي الديني العنصري في آن واحد، استعمار الأرض والجسد والعقل في آن واحد، يشمل التحرير الثلاثة معًا: الأرض والجسد والعقل. هذا هو الوعي الجديد الذي اكتسبته الحركات النسائية العالمية وداخل كل بلد، لا يمكن تحرير نصف المجتمع من النساء في ظل الاحتلال أو الاستعمار أو الحكم الطبقي أو الأبوي أو الديني، أصبحت حركات تحرير النساء في العالم كله ترفع شعار فصل الدين عن الدولة أو ما يسمى العلمانية
".

 

المراجع:

الحركة النسوية العالمية د. سهير سلطي التل

 

"رائدات عربيات في صحافة المرأة "

 

http://www.malazi.com/index.php?d=95&id=230

صحافيات لبنانيات رائدات في كتاب لنجيب البعيني

 

أسماء نسوية نهضوية من زمن تنويري جميل!

 

المستقبل – السبت 9 شباط 2008 – العدد 2871 – ثقافة و فنون – صفحة 20

الحركة النسائية في مصر

http://www.forumtiersmonde.net/arabic/Social_Actions_in_Arab_Countries/feminist_movement_egypt.htm

 

 

 

©2023 جميع الحقوق محفوظة لـ بوليفارد