• Avenue Pasteur 63, 10000

    Troyes, France

  • البريد إلكتروني

    info@musawasyr.org

#

الدولة الوطنية الحديثة من وجهة نظر نسوية

 

الفصل الثالث والعشرون من كتاب النسوية مفاهيم وقضايا

ميّة الرحبي

 ليست النسوية كما يخال البعض حركة للدفاع عن حقوق المرأة فحسب، فذلك توصيف ينطبق على نسوية القرن التاسع عشر، أما اليوم فالنسوية منظومة فكرية متكاملة، ترى الإنسان الفرد كائنا حرا مستقلا بذاته، ومواطنا يتمتع بحقوقه كاملة بغض النظر عن جنسه ودينه وعرقه، هي منظومة تسعى لسعادة المجتمعات ورفاهها، وإلى الحق والعدل، لذا فهي تنطوي على رؤية سياسية اقتصادية اجتماعية وثقافية بديلة، وفي هذا الإطار فهي تسعى لرسم ثقافة إنسانية بديلة عن الثقافة الذكورية التي كرست صورة دونية للمرأة، كنتاج للنظام البطركي (الأبوي).

ونتيجة مواقف النسوية المناصرة للحركات العمالية والمعادية للعنصرية والمناصرة للبيئة والمناهضة للعولمة فقد ساهمت الحركة النسوية الغربية في النضال ضد النظام الرأسمالي، فكريًا بتعرية أصوله الطبقية القمعية المستغلة، وميدانيًا بمناصرة الاضرابات والاحتجاجات التي قادتها كافة الحركات سابقة الذكر، كما تعادي النسوية الأنظمة الديكتاتورية، والحركات الأصولية المتطرفة، وتعادي ما تقوم به الشركات الرأسمالية الكبرى والشركات العابرة للقارات، التي تستخدم جسد المرأة كسلعة تجارية. وتكمن خصوصية الحركات النسوية العالمثالثية بربطها جميع العوامل السابقة بمقاومة الاستعمار الخارجي أيضًا.

 وبناء على ذلك يمكننا أن نصنف دون تحفظ النسوية في إطار الحركات السياسية، التي تهدف إلى تغيير الواقع تغييرًا جذريًا، في سبيل مجتمع إنساني أكثر عدلًا.

لم يهمل منظرو الدولة من فلاسفة وساسة وعلماء اجتماع قضية المرأة سهوًا، بل إنهم- عدا قليل منهم سنذكرهم لاحقا- في حديثهم عن المدينة الفاضلة والعقد الاجتماعي ودولة الحق والقانون ومساواة المواطنين أمام القانون، كانوا يتحدثون أو يعنون المواطن "الرجل" فقط، والأدلة على ذلك كثيرة.

ربما يقول قائل أنهم عندما تحدثوا عن المواطن فإنهم عنوا بذلك الإنسان امرأة كان أم رجلًا، إلا أن هنالك أدلة كثيرة تدحض ذلك الادعاء، وتشير دون لبس أن المواطن عندهم كان مواطنًا "رجلًا" فقط.

فأفلاطون في مدينته الفاضلة يصنف المرأة في درجة دنيا مع العبيد والأشرار والمخبولين والمرضى، ويصف (كانط) المرأة بأنها ضعيفة في تكوينها ككل، وبخاصة  في قدراتها العقلية، ويقول فيلسوف الثورة الفرنسية (جان جاك رسو) إن المرأة وجدت من أجل الجنس ومن أجل الإنجاب فقط.

أما بالنسبة للمنظرين العرب فيقول الكواكبي، في كتابه طبائع الاستبداد ،عن النساء بأنهن "اقتسمن مع الذكور أعمال الحياة قسمة ضيزى.. وجعلن الشجاعة والكرم سيئتين فيهما ، محمدتين في الرجال"، "والحاصل أنه قد أصاب من سماهن بالنصف المضر".

ويقول عبد الله العروي في كتابه "مفهوم الدولة" "العقل اكتساب لدى الطفل، ولدى الرجل الراشد القيمة العليا، مهما كان مصدرها....الخ"

أفلا يعني ذلك كله ضرورة إعادة النظر في جميع أدبيات الدولة ووضع الأمور في نصابها، إذا كنا نريد الحديث عن حق وعدالة ومستقبل زاهر للبشرية، إلا إذا كان منظرو الدولة لازالوا مصرين على اعتبار الدولة "دولة رجال"، أو مصرين على إلغاء نصف المجتمعات، أو إلغاء صفة الإنسانية عن المرأة.

نشوء الدولة:

الدولة حسب هيغل "ضرورة خارجية وقوة متعالية يجب أن يكيف الفرد والأسرة والمجتمع المدني مصالحها وقوانينها معها"، وحسب ابن خلدون فإن "الملك غاية طبيعية ليس وقوعه عنها باختيار انما هو بضرورة الوجود وترتيبه"

في حين بنيت نظريات فلاسفة الأنوار على التعاقد الاجتماعي، كما أنها عند ماركس روح مجموعة الإرادات الفردية.

ولن أغوص هنا في المفهوم النظري للدولة وسأكتفي بالنظريات التي تربط نشوء الدولة تاريخيا بأوضاع النساء، وخير من أوضح ذلك هو انجلز في كتابه الهام "أصل الملكية والعائلة والدولة"، والذي بنى فيه استنتاجاته مستندًا إلى  أبحاث باهوفن ومورغان، التي ربطت نشوء الدولة تاريخيًا باستقرار قبائل البدو الرحل والملكية الخاصة والكتابة، وهي ذاتها الأسباب التي أدت إلى انهيار نظام المجتمع الأمومي والانتقال إلى النظام البطريركي الأبوي، فتغير أدوات الإنتاج حسب ماركس وانجلز يستلزم بالضرورة تغير العلاقات الاجتماعية.

لقد قاد تغير العلاقات الانتاجية والملكية الخاصة إلى تنامي الثروات بأيدي أفراد، ما استدعى تغير نظام الوراثة التقليدي. فتمركز الثروة بيد الرجل ورغبته في نقل هذه الثروات بالميراث إلى أولاده بالذات قاد إلى أحادية الزواج "الذي هو أحادي للمرأة فقط، أمام التعددية المتاحة للرجل بالخيانة ومؤسسة البغاء الرديفة لمؤسسة الزواج الأحادي" حسب انجلز. وقد مثل إسقاط الحق الأمّي حسب انجلز هزيمة تاريخية لجنس النساء، وأول شكل للعائلة البطريركية حسب مورغان كان يهدف إلى " تنظيم عدد معين من الأشخاص، الأحرار وغير الأحرار، في عائلة تخضع لسلطة رئيس العائلة الأبوية".

لقد فقدت إدارة الاقتصاد البيتي طابعها الاجتماعي الشيوعي الذي كانت تشرف عليه النساء، بظهور العائلة البطريركية، وتحولت إلى خدمة خاصة، وصارت الزوجة الخادمة الرئيسية، وأقصيت عن الاشتراك في الانتاج الاجتماعي.

والعائلة الفردية الحالية ترتكز على عبودية النساء السافرة أو المقنعة، والمجتمع الحالي هو كتلة تتألف بوجه الحصر من عائلات فردية هي بمثابة جزيئاتها. ويتعين على الزوج هنا أن يكون سند العائلة ومعيلها، وهذا ما يضمن له سيادة لا تحتاج إلى أي امتيازات قانونية خاصة.

لقد فرض النظام الاقتصادي الجديد القائم على الملكية الخاصة نظامًا اجتماعيًا جديدًا تراجعت فيه العلاقات العشائرية السابقة للدولة، مفسحة في المجال لعلاقات جديدة، فرضت نشوء الدولة التي اضطلعت بمسؤولية الأمن والجباية، لتخلق إدارة تطورت وتضخمت على مر الزمن، يتعالى فيها قسم من الناس (الملاّك الذكور) على الباقين غير المشاركين في ملكية وسائل الإنتاج. أي نشأت الدولة لحماية طبقة مالكة من طبقة مستغلة لا تملك.

 الدولة الحديثة في الغرب:

نشأت الدولة الحديثة في الغرب متمثلة بالدولة الرأسمالية، فالرأسمالية، وهي نوع من أنواع تنظيم العمل والإنتاج، أصل مميزات الدولة الحديثة، وفي مقدمتها العقلانية. وذلك لا ينفي ارتباطها بالقومية، وبالتالي بممارسة الطبقة الوسطى. وبرأي العروي "لم تظهر الرأسمالية في المجتمعات والدول التقليدية غير الأوربية لأن الروح المتحكم فيها كان معاديًا للعقل كقيمة عليا، بينما ظهرت في أوربا الغربية التقليدية لأنها كانت معقلنة نسبيًا بسبب تأثرها بالفلسفة اليونانية والقانون الروماني".

أدى التطور في الغرب والثورات المتلاحقة من قبل الطبقات المستغلة المقهورة إلى سن قوانين وتشريعات حدّت من سلطة الدولة كقوة قاهرة قامعة، ونشأت نظرية العقد الاجتماعي، التي قادت إلى الدولة الحديثة، والتي قامت على أسس ثلاث: فصل السلطات، رقابة المجتمع على الدولة، وخضوع الدولة نفسها للقوانين التي تسنّها.

الدولة الحديثة، هي دولة الحق والقانون، التي يتساوى فيها جميع المواطنين، فالمواطنة حقوق وواجبات. وهي أداة لبناء مواطن قادر على العيش بسلام وتسامح مع غيره على أساس المساواة وتكافؤ الفرص والعدل، للمساهمة في بناء وتنمية الوطن والحفاظ على العيش المشترك فيه.

 في الدولة الحديثة يتم الحد من اختراق الدولة للمجتمع المدني، بما يسمح بنشوء مؤسسات مجتمعية مستقلة عن سلطة الدولة، تشكل جماعات ضغط عليها، دفاعًا عن مصالح الطبقات والفئات التي تمثلها، و يأخذ الحكم  شكلًا جديدًا يتم تداول السلطة فيه عن طريق الانتخابات من قبل الشعب، تتمثل فيه جزئية القوى السياسية (تعدد الأحزاب) دون أن يطمح أحدها إلى إلغاء الآخر(صيغة الحزب الحاكم) بل تأخذ جهة السلطة أو المعارضة في انتظار الانتخابات القادمة، التي يختار فيها الشعب الأجدر في تمثيل مصالحه والحفاظ عليها.

هل قاد ذلك إلى العدل والحق والمساواة، التي طمح إليها فلاسفة ومفكرو عصر الأنوار ومن تلاهم؟

"إذا كانت الديمقراطية لا تقوم من دون الحرية، فهي لا تقوم أيضا دون المساواة" كما يقول جورج بيردو، ويقول خلدون حسن النقيب: "الحرية والمساواة حالتان متلازمتان والواحدة منهما ينبغي أن تؤدي إلى الثانية فالحرية السياسية لا معنى لها دون ديمقراطية اقتصادية أي مساواة"؛

فالديمقراطية تعني أن تكون الحرية والعدالة والمساواة مكفولة للجميع بغير تمييز على أساس اللون أوالجنس أو الدين.  

وهنا لابد لنا من التمييز بين الليبرالية الكلاسيكية ، ثمرة كفاح الطبقة الوسطى ضد الإقطاع، عن إيديولوجية الليبرالية الحالية الجديدة، التي تسخّر الأنظمة البرلمانية لمصالحها، وتزور الانتخابات وتستغل الحرية الاقتصادية لتركيز الاستثمارات الرأسمالية.

إذ نلاحظ في الدولة الغربية الحديثة، أن المساواة لم تتحقق، وبالتالي لا قيمة لأي ديمقرطية، لا يتحقق فيها شرط المساواة، وتتجلى اللامساواة في التفاوت الاقتصادي، وتمركز الثروة بأيدي قلة متحكمة بالاقتصاد، وعدم المساواة الجندرية، والتمييز الذي يمارس ضد الأقليات العرقية والدينية. فلازال وجود المرأة في الحقل السياسي، ومواقع صنع القرار محدودا، في أغلب تلك الدول، ولا تتجاوز نسبة وجودها في بعض البرلمانات الغربية 15%،  ويمارس التمييز الجندري حتى اليوم في مجال العمل، ولازالت الجمعيات النسوية تكافح في الدول الأوربية من أجل حصول المرأة على أجور مساوية للرجل، وحتى اليوم تؤدي النساء ثلثي حجم العمل العالمي، ويكسبن عشر الدخل العالمي، ويملكن أقل من 1% من ممتلكاته، ولازال الفقر مرتبطا بالمرأة والاقليات العرقية الدينية الاثنية.

ولم تساهم تلك الدول في تغيير الثقافة الاجتماعية السائدة التي لا زالت تضع المرأة في مرتبة أدنى من الرجل، ولازال الرجل هو المسؤول الأول عن إعالة الأسرة، ولا زالت المرأة تقوم بالقسم الأكبر من العمل المنزلي، حتى لو كانت تعمل خارج المنزل، وتتحمل وحدها تقريبا مسؤولية تربية الأطفال وتنشئتهم، بل تكرست في العقود الأخيرة ظاهرة الأمهات الوحيدات، وتم تسليع جسد المرأة من قبل الشركات ووسائل الإعلام المدعومة من قبل قوى اقتصادية كبرى، ومن قبل عصابات دولية عابرة للقارات تتاجر بالنساء والأطفال، ويقدر عدد النساء اللاتي يجبرن على ممارسة الدعارة ب 90% من النساء اللاتي يمارسنها، دون كبير عناء من تلك الدول "المتحضرة" لمحاربة تلك الممارسات غير المشروعة، إذ لا تبذل تلك الدول جهدا جديا للقضاء على تلك التجارة، قدر عنايتها وإنفاقها على الحروب الامبريالية المدمرة.

وبالمقابل يحق لنا التساؤل: هل تحققت المساواة الجندرية في الدول الاشتراكية، والجواب بالنفي طبعا، إلا إذا اعتبرنا التساوي في التعرض للقمع والقهر والإذلال والإفقار وانعدام الحريات مساواة، في تلك الدول، التي سميت اشتراكية لفظًا، إلا أنها عمليًا مثلت شكلًا جديدًا مختلفًا للدولة المستبدة، التي مارست الاستبداد السياسي الاقتصادي الثقافي باسم الاشتراكية.

يقول مورغان في كتابه "المجتمع القديم"  "منذ ظهور الحضارة، غدا نمو الثروة على درجة من الضخامة ... بحيث أن هذه الثروة أصبحت قوة لاتقهر، تجاه الشعب. إن العقل البشري يقف حائرًا قلقًا أمام صنيعته بالذات"، ورغم أنه يجد في الديمقراطية سبيلًا للحد من سيطرة الثروة إلا أنه لا يعتبرها حلًا نهائيًا، بل يعتبر أنها ستكون "بمثابة انبعاث – ولكن بشكل أرقى- للحرية والمساواة والإخاء في العشائر القديمة".

الدولة في المنطقة العربية تاريخيا:

الدولة عند ابن خلدون هي أولًا "آلة القهر والغلبة والاستقلال بالملذات والمفاخر، ومدة استيلاء جماعة مخصوصة على السلطة والمال" فمفهوم الدولة هو التسلط، ولا يمكن تصور دولة بلا قهر وبلا استئثار جماعة معينة للميزات المتوفرة، وبالمقابل لا يمكن تصور الحرية إلا خارج الدولة.

تتواجد في الدولة الإسلامية التي قامت في المنطقة العربية حسب العروي عناصر ثلاث:

  • الدهرية العربية:التي تحافظ على توازن القبائل والعشائر والأسر؛
  • والأخلاقية الإسلامية: التي تستلزم جهازًا يعمل على تهذيب الأفراد أي إخراجهم من خلق إلى خلق جديد؛
  • والتنظيم الهرمي الآسيوي: لخدمة أهداف دنيوية داخل وضع اجتماعي معين.

 وقد عانت هذه العناصر دوما من التفكك والانفصال والتنافر. وقد تجلى ذلك التنافر في الموقف من المرأة الذي خلط بين مفاهيم العشائرية وأحكام الإسلام والتقاليد الآسيوية بحيث انتقى منها الفكر الذكوري المسيطر ما يرغب، وصاغها ضمن أحكام فقهية زادت من سيطرة الرجل على المرأة، بحيث حجبت في بيتها منقطعة تمامًا عن أي نشاط أو فعالية اجتماعيين، وتحولت المرأة إلى متاع يملكه الرجل ملكية تامة، وفقدت جميع المكاسب التي حصلت عليها في صدر الإسلام، وتحولت النساء إلى جوار في قصور الخلفاء والأثرياء، أو في بيوت أزواجهن.

وتتجلى طوباوية فلاسفة الإسلام في الحنين إلى الخلافة، وهي الحكم الذي يهدف من وراء المصلحة الدنيوية تحقيق مكارم الأخلاق (أي إرضاء وجه الله وإعلاء كلمته). والدولة السلطانية التي قامت على مبدأ الإسلام دين ودولة عنت تساكن الدين والدولة، وقد أقر الفقهاء بضرورة معايشة الدولة السلطانية، حتى لو أهملت مقاصد الشريعة،  بتطابق مع المدرسة الميكيافيلية، إلى حين حصول المعجزة الربانية وعودة الخلافة (العروي).

والدول السلطانية تاريخيا تخدم السلطان (الجيش، الضرائب، الإدارة)، ولا يوجد ارتباط بينها وبين المصالح الجماعية. ونتيجة ظهور الخطر الغربي المسيحي، قام السلطان في المرحلة الأولى بالإصلاحات أملًا بتقوية سلطته، أما في المرحلة الثانية فقد قام بالإصلاحات مستعمرون أوربيون مستهدفين تشجيع الاستيطان الأوربي، وتوسيع اقتصاده.

وقد توحد السلطان والرعية والفقهاء في الشعور بتهديد الغرب المسيحي، لذا شجعوا الإصلاح في المرحلة الأولى، لكنهم عارضوه في المرحلة الثانية، ما أدى إلى ظهور السلفية، عندما لم تستطع النخب الوطنية المقاومة للاستعمار أن تبتدع نظرية دولة.

الدولة العربية الحديثة:

الدولة الحديثة في البلاد العربية هي حسب العروي: نتيجة عمليتين مزدوجتين: عملية التطور الطبيعي التي أورثها كثيرًا من الأفكار والأنظمة وأنماط السلوك التقليدية، وعملية إصلاح غيرت شيئًا من التراتيب الإدارية العليا واستعارت من الخارج وسائل مستحدثة للنقل والاتصال بهدف تطوير الزراعة والتجارة.

إن أحد أهم أسباب تعثر مسيرة الكفاح العربي لتحقيق الأهداف القومية العليا يرجع إلى الاختراق الامبريالي لأنظمته السياسية. فالقوى الامبريالية تخشى أشد الخشية من أن تتحول المنطقة العربية في حال تحقيق وحدتها ونهضتها إلى قوة إقليمية يحسب لها حساب في تلك المنطقة الإستراتيجية الحساسة، المدعومة بالنفط وموارد مالية كبيرة. من ناحية أخرى فإن الأوضاع والقوى الاجتماعية في الدول العربية هي التي سمحت لعلاقات التبعية وأعراضها المرضية بالسيطرة والاستمرار حتى اليوم. وبعد حرب حزيران أصبحت "إسرائيل" قوة محلية أو امبريالية فرعية، خلقت معادلة جديدة يصل بموجبها الغرب الامبريالي إلى تحقيق مصالحه من خلال تحقيق "إسرائيل" مصالحها الخاصة.

قاد عصر الكفاح من أجل الاستقلال فئة من كبار الملاك والتجار، الذين حملوا فكرًا إصلاحيًا، إلا أن فشلهم في حل المشكلات الاجتماعية الاقتصادية، أدى إلى استيلاء العسكر من الطبقة المتوسطة على نظام الحكم في الخمسينات وأوائل الستينات، والذين حملوا فكرًا ثوريًا انقلابيًا، وأرسوا دعائم الدولة التسلطية التي هيمنت على المجتمع المدني والاقتصاد، تلك الهيمنة التي لم تقد إلى الاشتراكية بل إلى رأسمالية الدولة التابعة، الذي تلعب فيه الدولة دور الرأسمالي الفرد.

 ويتبع قيام رأسمالية الدولة التابعة ركود اقتصادي واجتماعي وحضاري، و"الاحتكار الفعال للقوة" حسب رأي خلدون حسن النقيب، بالاستيلاء على الدولة بالكامل ومؤسسات المجتمع المدني، وخلق تنظيمات مصطنعة، والسيطرة على وسائل الإعلام كافة، وتوسيع أجهزة الأمن والاستخبارات، والسيطرة على النظام الاقتصادي بكل فروعه (مصانع، شركات، مصارف، أراضٍ).أدى ذلك إلى تفريغ معظم القضايا الحيوية ومعضلات التنمية وجهود التحرر العربي من محتواها السياسي، كما أدى الإرهاب المنظم إلى إفراغ العملية السياسية من المعارضة المنظمة وقصر المساهمة السياسية على المؤيدين والموالين، ما أتاح المجال لعودة التنظيمات المتخلفة (ما قبل الرأسمالية)، كالقبلية والطائفية والإقليمية.

ورغم أن الدولة تشكل في دول العالم الثالث، ربما، الوسيلة الوحيدة للدفاع عن نفسها ضد الاستباحة الامبريالية، إلا أنها في الوقت نفسه أداة التسلط البيروقراطي والبطش والإرهاب، ولا يكمن الخيار الحقيقي في تقوية دور الدولة أو إضعافه، بقدر ما يكمن في منع الدولة من التحول إلى شريك في استباحة الامبريالية مصالح السكان وموارد المجتمع. 

يتحول المجتمع في ظل النظام الاستبدادي إلى عيون وجواسيس يراقب بعضها بعضًا، ويرشد بعضها على بعض، فما فائدة انجازات الطغاة، إذا كانت تتم على حساب تدمير الإنسان. وكما يقول مونسيكيو في "روح الشرائع" "يميل الاستبداد إلى هدم الدولة ذاتها بهدمه لروح المواطن الذي هو أساس الدولة".

وبالنسبة للمرأة فقد اندمجت الحركات النسائية في مرحلة التحرر الوطني تماما ضمن النضال الوطني، ما جعلها تضع النضال من أجل حقوق المرأة في آخر سلم أولوياتها، على اعتبار أن التحرر من الاستعمار سيقود حتما إلى تحرر المرأة ونيل حقوقها وضمان مشاركتها في الحياة العامة، وساهم في ذلك سيطرة الأحزاب الإيديولوجية القومية، الاشتراكية، والدينية على الساحة السياسية، والتي حصرت أي نشاط مجتمعي ضمن إطار إيديولوجياتها القاصرة التسلطية المحدودة الفهم والرؤية المستقبلية الواضحة، وكانت النتيجة عزل المرأة تمامًا عن المشاركة في القرار السياسي بعد نجاح حركات التحرر في طرد الاستعمار، ولم تحصل المرأة على حقوق الانتخاب والترشيح إلا بعد سنوات من الاستقلال، و بقيت مشاركتها في الحياة العامة محدودة.

لا يمكننا أن ننفي ما كان للدولة التسلطية الحديثة، من أثر ايجابي نسبي على وضع المرأة، بإتاحتها التعليم للطبقة الوسطى والمناطق الريفية، ما أتاح المعرفة لعدد كبير من النساء اللاتي استفدن من ذلك في الدخول إلى ميادين العمل وبالتالي السياسة، وإن بشكل محدود، إلا أن تلك الأنظمة أثّرت من ناحية ثانية سلبًا على نضال المرأة بمنعها الجمعيات النسوية من العمل وحصرها العمل الجماعي النسائي - شأنه في ذلك شأن جميع الأنشطة المجتمعية الأخرى- في منظمة وحيدة، جُيّر عملها ليس من أجل النضال في سبيل تحرير المرأة ونيل حقوقها، بل فقط للإشادة بانجازات وهمية للسلطة الحاكمة.

وبنظرة سريعة على واقع المرأة في الدول العربية نجد أن الأمية بين نساء الدول العربية تتراوح حتى اليوم بين 60-25%، وتواجد النساء في البرلمانات العربية لا يتعدى 12-15% في أحسن الأحوال، والنسب الأعلى من ذلك نسب لتواجد شكلي للنساء في برلمانات الأنظمة الشمولية التي تبغي تلميع صورتها أمام الخارج. ويكاد ينعدم تواجد المرأة في المراكز القيادية للأحزاب، إن وجدت، ناهيك عن الدول التي لا تبيح لها حتى اليوم حق الترشيح والانتخاب، كما أن وجودها في السلطة التنفيذية، وجود شكلي، يقتصر على وزيرتين أو ثلاث، في أحسن الأحوال، لوزارات غير سيادية، ولازالت القوانين في الدولة العربية تحرم المرأة من حقوق المواطنة كاملة، فرغم أن دساتير تلك الدول تقر بمساواة جميع المواطنين في الحقوق والواجبات، إلا أن ذلك يتم نقضه، بأكثر الأشكال صراحة ووضوحًا، في قوانين الأحوال الشخصية التي تعتبر المرأة إنسانا ناقص الأهلية، قاصرًا، شأنها في ذلك شأن فاقدي الأهلية العقلية قانونيًا. كما ينتقص ذلك القانون من حقوقها كمواطنة في المواد المتعلقة بالزواج والطلاق والوصاية والإرث، التي لا زالت محكومة بمنظومة القوامة، ويمارس ضد المرأة  تمييزًا جندريًا في قوانين العقوبات والجنسية. كما أن العرف يغلب على القانون في بعض المناطق خاصة الريفية منها، فتحرم المرأة من الميراث وتُزوّج رغمًا عنها ويقبض الأهل مهرها ثمنًا لها.

الاقتصاد في الدول العربية الحديثة:

ما يميز اقتصاد الدولة التسلطية هو التدخلية و الريعية، وفي ظل ذلك ينمو الاقتصاد الموازي أو اقتصاد الظل، الذي يشمل النشاطات التي تولد دخلًا مكتسبًا بطرق قانونية، لكنه غير معلن، بقصد التهرب عن دفع الضرائب، كالأعمال التي تتم في المنزل أو لصالح العائلة، والدخل غير المشروع كالرشوة وقبض العمولات والتلاعب بالحسابات الرسمية، والتهريب، والدعارة.

أما بالنسبة للمرأة فلا تتعدى مساهمتها في قوة العمل 15% في أغلب الدول العربية، و حجم مشاركة المرأة العربية في سوق العمل هو الأدنى من بين دول العالم، هذا إذا أخذنا بعين الاعتبار صعوبة إحصاء عدد النساء اللاتي يعملن دون أجر عند العائلة، سواء في الزراعة أو الوحدات الإنتاجية العائلية الصغيرة، وهو الشكل السائد لعمل المرأة في جميع الدول العربية، بحيث يتم استخدامها كآلة للعمل والإنجاب دون تمتعها بأيّ حقوق.

ويقل تواجد المرأة كلما ارتفع الأجر والمركز الوظيفي. وتفتقد المرأة العاملة في القطاع الخاص لأي نوع من الحقوق، نتيجة عدم وجود رقابة حكومية كافية تفرض تسجيل العاملات في التأمينات الاجتماعية، ما يعرضهن للاستغلال على كافة الأصعدة.

الثقافة السائدة والمد الديني الأصولي:

الثقافة العربية السائدة هي ثقافة استبدادية ذكورية في أكثر صورها وضوحًا وجلًاء، إذ تصنف المرأة في الثقافة السائدة في مرتبة إنسانية دونية. وأدى تجذر الثقافة الذكورية في العقل الجمعي لمجتمعاتنا إلى اقتناع المرأة نفسها بدونيتها تلك، وتلعب منظومة القوامة التي تحكم الأسرة العربية دورًا في تعميق تلك النظرة.

يمارس ضد المرأة عنف وتمييز، يبدأ من لحظة ولادتها، ولعل الآية الكريمة "وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم، يتوارى من القوم من سوء ما بشر به، أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون" النحل 59، لخير تعبير على موقف الكثير من الأسر من ولادة الأنثى، اليوم، وإن كان الوأد قد انتفى اليوم بالمعنى الحرفي، إلا أن وأدًا جسديًا ونفسيًا واجتماعيًا، لا زال يمارس ضدها، بدرجات متفاوتة، على صعيد الأسرة والمجتمع والدولة.

 حذر جون ستيورت ميل في كتابه الشهير (On Liberty) من طغيان الأغلبية، الذي يندرج بصفة عامة بين الشرور التي ينبغي على المجتمع أن يحترس منها، إذ لا يكفي حماية الفرد من طغيان الحاكم، وإنما تمس الحاجة لحمايته من طغيان الرأي العام أيضا وميل المجتمع لفرض الآراء والمشاعر على الفرد الذي يرفض قبولها، وينطبق ذلك تماما على ضرورة حماية المرأة من طغيان الأغلبية، التي تتبنى الفكر الذكوري، وتعرقل بالتالي أيّ محاولة لتغيير الواقع السائد لصالح المرأة.

يقول ماكس فيبر"إن الذي لا يستطيع أن يواجه قدر هذا الزمان سيجد في الدين ملجأ". وقد أدى قمع الدولة التسلطية، وهزيمة التيارات القومية والاشتراكية والليبرالية التي لم تصمد أمام التحديات ولم تستطع أن تجد حلًا للمعضلات التي واجهتها الشعوب العربية، على الصعيدين الخارجي والداخلي، إلى بروز تيار جديد سمي ب "الصحوة الدينية"، تجلى برموز وتجمعات دينية عديدة سيطرت على المجتمعات العربية. وتحول الجزء المسيس منها إلى حركات عنيفة مارست الإرهاب الفردي والجماعي.

وقد وضعت الجماعات الدينية بمختلف فصائلها قضية المرأة في أول سلم أولوياتها، وعلقت جميع مصائب وإخفاقات وشرور الواقع العربي على فساد النساء وسفورهن وتفلتهن من القيود الاجتماعية التقليدية، ووضعت تلك الجماعات في مقدمة إستراتيجيتها حجب المرأة، ليس باللباس فقط الذي اعتبر "فريضة سادسة"، بل بعودة النساء إلى البيوت، المكان الذي عليهن التواجد فيه، ليمارسهن المسؤولية المنوطة بهن في العناية وخدمة الزوج والأولاد، وإقصائهن تماما عن الحياة العامة، وقصر الهدف من تعليمهن على الاستفادة من ذلك في تربية أولادهن.

المستقبل:

لا يمكن تصور مستقبل مشرف لشعوبنا العربية دون إرساء أسس الدولة الوطنية الحديثة، دولة الحق والقانون، دولة المواطنين الأحرار المتساويين بالحقوق والواجبات، دون أي تمييز على أساس الجنس أو العرق أو الدين، دولة يمارس فيها المجتمع المدني بكل مؤسساته الحزبية والنقابية والجمعياتية نشاطًا مجتمعيًا فعالًا، يتبنى مصالح الفئات التي يدافع عنها، ويمارس الضغط السلمي على المؤسسات الحكومية لتحقيق تلك المصالح، في ظل نظام ديمقراطي يتم فيه تبادل السلطة بانتخابات حرة حقيقة، لا شكلية، واستقلالية كاملة للسلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، ما يقود إلى  إصلاح إداري واقتصادي، يتم انتشال المجتمعات العربية من خلاله من براثن الاقتصاد الريعي والنهب والفساد، وحسب رأي المفكّر الهندي Amartya sen  في كتابه "التنمية كحرية" فبدون الحريات السياسية والديمقراطية والاعتراف بحقوق الأفراد يصعب تحقيق إصلاح اقتصادي.

وذلك يتطلب كما يقول صادق جلال العظم "نسبة عالية من العلمانية المحايدة دينيًا وطائفيًا واثنيًا".

يرى سمير أمين أن التنمية الجدية المستقلة غير ممكنة إلا بفك الارتباط بالنظام الاقتصادي العالمي، بحيث تخضع العلاقات الخارجية لمنطق التنمية الداخلية المستقلة، وذلك بالإلغاء التدريجي لهيمنة الملكية الخاصة على ميادين الإنتاج الاجتماعي، وبالاهتمام بالقطاع الزراعي، و توزيع الدخل القومي بشكل عادل بين الريف والمدينة، والتوزيع العادل للملكيات الزراعية ومنع تفتتها إلى ملكيات صغيرة غير منتجة، وعدم تركز الثروة والدخل في أيدي نخبة قليلة من الفئات المستفيدة والمحيطة بالنخبة الحاكمة.

وكقاعدة لمقاومة السيطرة الامبريالية لابد من السعي الحثيث نحو شكل من أشكال الاتحاد العربي، كضرورة تاريخية مستقبلية، لقيام قوة حقيقية في المنطقة تقف في وجه الأطماع الامبريالية التي لا تتوقف، وتسهم في حل القضايا التاريخية العربية العالقة وعلى رأسها القضية الفلسطينية على أسس السلام العادل الحقيقي، الذي يضمن عودة كافة الأراضي العربية المغتصبة، وضمان حق العودة للاجئين الفلسطينيين.

هل يكفي ذلك لتصحيح أوضاع المرأة العربية؟

 بالطبع لا، فجذور قضية المرأة تمتد إلى عمق التاريخ وعمق الثقافة العربية السائدة، والتي لن تتغير إلا بنشر ثقافة بديلة تعيد للمرأة مكانتها الإنسانية المستلبة، ومنح المرأة حقوق المواطنة كاملة، بإلغاء جميع القوانين التمييزية ضدها، وإقرار قانون أسرة عصري بديل يضمن حقوق جميع أفراد الأسرة، على أسس عصرية حديثة ف "لا مواطنة من دون قانون مدني كامل يحقق العدالة والمساواة من دون تفرقة على أساس الدين أو الجنس أو الجنسية".. لذا "فالعلمانية اليوم مطلب جميع الحركات النسوية العالمثالثية" حسب نوال السعداوي.

 لابد  كذلك من السعي إلى تمكين المرأة، ومشاركتها الفعالة في مسيرة التنمية، وإدخال مفهوم الجندر ضمن الخطط التنموية لكافة القطاعات.

 وبذلك فقط تتم نهضتنا وانتشال شعوبنا من وهدة التخلف، وبذلك فقط يتم إحقاق الحق والعدل الذي كان ولا يزال جوهر وجود الإنسان في هذا الكون.

المراجع:

  • مفهوم الدولة   عبد الله العروي   الطبعة الأولى    1981  المركز الثقافي العربي الدار البيضاء
  • مفهوم الحرية  عبد الله العروي   الطبعة الأولى    1981  المركز الثقافي العربي الدار البيضاء
  • أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة     فردريك انجلز
  • الدولة التسلطية في المشرق العربي   خلدون حسن النقيب  الطبعة الأولى بيروت أيار 1991
  • الدين والدولة وتطبيق الشريعة  محمد عابد الجابري طبعة أولى بيروت 1996
  • الدين والدولة    محمد سعيد طالب   الأهالي طبعة أولى 1997
  • المجتمع المدني     جاد الكريم جباعي    ترقا للطباعة والنشر  طبعة أولى 2003
  • حقوق الانسان والحريات العامة    د. رامز محمد عمار    طبعة ثانية 2002
  • جذور الاقليمية الجديدة  د. نديم البيطار      طبعة أولى  معهد الإنماء العربي 1983
  • ابن خلدون     محمد سعيد طالب  طبعة أولى  الأهالي 2001
  • طبائع الاستبداد     الكواكبي

مقالات عديدة على الانترنيت من بينها:

  • الديمقراطية والليبرالية: بين التكامل والصراع، معتز بالله عبد الفتاح
  • محنة الاقتصاديات العربية في ظل الحكومات التدخلية، زاكروس عثمان
  • الدولة العلمانية والمسألة الدينية: تركيا نموذجا، صادق جلال العظم

الحركات النسائية عام 2010 تطالب بفصل الدين عن الدولة،  نوال السعداوي : جريدة الحياة 21/3/2010
 

©2023 جميع الحقوق محفوظة لـ بوليفارد