648
الجرائم المرتكبة باسم الشرف
الفصل التاسع عشر من كتاب النسوية مفاهيم وقضايا
د. ميّة الرحبي
تقتل المرأة باسم الشرف في بعض الأوساط من مجتمعنا، وخاصة في الأرياف، على يد أحد أفراد الأسرة، لمجرد الاشتباه بسلوكها، أو حتى لزواجها زواجًا شرعيًا قانونيًا من شخص لا توافق عليه الأسرة، ويقيم الأهل بعد مقتلها عرسًا، وتفتح المضافات، وتنطلق الزغاريد، وتدور فناجين القهوة المرة، ويستقبل الأهل الضيوف المهنئين، ووجوههم يعلوها البشر؛ لقد غسلوا بدمها عارهم.
ينفذ الجريمة فرد واحد من أفراد الأسرة، لكن عمليًا تشترك الأسرة كلها، وربما العشيرة أيضًا، بالجريمة عن طريق التحريض والتشجيع، وبذل الوعود لمرتكب الجريمة باستخدام نفوذ وأموال ووساطات العائلة/العشيرة، لتخفيف الحكم القضائي، وبالتالي خروج القاتل بعد أشهر معدودة من السجن بطلًا منتصرًا.
هل يمكننا القول هنا أن الذي ارتكب الجريمة هو وحده الجاني؟ أعتقد أن من الحكمة القول أنه لم يكن سوى الأداة المنفذة لجريمة تكالبت عوامل عدة لوقوعها.
فمن وجهة نظر قانونية:
يخطىء من يعتقد أن القانون دوما هو من يحكم حياة المواطنين وقضاياهم وخلافاتهم في مجتمعاتنا، وخاصة في المسائل المتعلقة بالمرأة، فالعائلة/العشيرة/القبيلة، لها قوانينها الخاصة التي تُطبق على النساء، وبحسب ما ترتأي يمكن أن تجرّم من تشاء، وتصدر الحكم على من تشاء، وتوكل إلى أحد أفرادها تنفيذه، ويندر أن تنجو امرأة في بلادنا من هذه الأحكام، بدءًا من صفعة، تتلقاها ربما في صغرها، لملبس غير لائق أو نظرة أو همسة أو لفتة، مرورًا بالحبس أو الضرب أو الجلد، وانتهاءً بالقتل.
هنالك ملايين الجرائم المستترة التي تتعرض فيها المرأة، وبخاصة الطفلة، للعنف الأسري، لكنها تبقى طي الكتمان، ولا ينتشر خبر الجريمة إلا إذا وصل إلى حدود القتل، وهنا يستند الأهل إلى حجة الانحراف الأخلاقي -الذي يحددون هم، وهم وحدهم، وجوده وحدوده ومداه- من أجل الاستفادة من الغطاء القانوني الذي يحيل الجريمة إلى "جريمة شرف"، فيستفيد القاتل من الأحكام المخففة، التي يقرها القانون في مواده المتعلقة بالجرائم المرتكبة باسم الشرف، وتتكفل العقلية الذكورية التي تحكم القضاة، والفساد الذي لايستهان به في أروقة القضاء بإتمام المهمة، بتفسير تلك المواد القانونية بما يخدم الجاني ويؤمن له غطاءً قانونيًا يتيح له النجاة بفعلته، بحيث لا يتعدى ثمن حياة المرأة أشهرًا معدودة في السجن.
ولايعدم قانون العقوبات مواد تتيح للقضاة الالتفاف على العدالة والحق وإيجاد مخارج تنجي المجرم من العقاب الذي يستحقه بقتله نفسًا بغير حق.
وتأتي المادة 548 على رأس تلك المواد القانونية والتي كانت تنص على:
1- يستفيد من العذر المحل من فاجأ زوجه أو أحد أصوله أو فروعه أو أخته في جرم الزنا المشهود أو في صلات جنسية فحشاء مع شخص آخر فأقدم على قتلهما أو إيذائهما أو على قتل أو إيذاء أحدهما بغير عمد.
2- يستفيد مرتكب القتل أو الأذى من العذر المخفف إذا فاجأ زوجه أو أحد أصوله أو فروعه أو أخته في حالة مريبة مع آخر.
وقد طال تلك المادة تعديل بالمرسوم التشريعي رقم 37 لعام 2010، على الشكل التالي:
المادة-1- تلغى المادة 548 من قانون العقوبات ويستعاض عنها بالنص التالي:
يستفيد من العذر المخفف من فاجأ زوجه أو أحد أصوله أو فروعه أو أخته في جرم الزنا المشهود أو في صلات جنسية فحشاء مع شخص آخر فأقدم على قتلهما أو إيذائهما أو على قتل أو إيذاء أحدهما بغير عمد على ألا تقل العقوبة عن الحبس مدة سنتين في القتل.
إلا أن تلك الخطوة الايجابية لم تمنع من استمرار وتيرة جرائم الشرف في سوريا بشكل شبه يومي، كان الإعلام يرصد بعضها ويطلعنا عليها، في حين يغيب بعضها عن سمع وأنظار الرأي العام.
وقد طرأ تعديل ثانٍ على تلك المادة في المرسوم التشريعي رقم 1 للعام 2011-الذي عدل عدة مواد في قانون العقوبات- بالنص التالي:
المادة 15- تلغى المادة (548) ويستعاض عنها بالنص التالي:
يستفيد من العذر المخفف من فاجأ زوجه أو أحد أصوله أو فروعه أو أخوته في جرم الزنا المشهود أو في صلات جنسية فحشاء مع شخص آخر فأقدم على قتلهما أو إيذائهما أو على قتل أو إيذاء أحدهما بغير عمد وتكون العقوبة الحبس من خمس سنوات إلى سبع سنوات في القتل.
ورغم صراحة هذه المادة في اشتراط المفاجأة في جرم الزنا المشهود أو في صلات جنسية فحشاء، إلا أنه بقي يستخدم في التخفيف من عقوبة المجرم الذي يرتكب جريمة قتل إحدى قريباته، رغم أن أغلب الجرائم كانت بحق نساء تزوجن زواجًا شرعيًا وقانونيًا، من رجال لم يكن الأهل براضين عنهم، أو بحق فتيات اشتبه بتصرفاتهن، ليثبت الطب الشرعي بعد مقتلهن بأنهن كن عذراوات.
والغريب في الأمر هو استفادة الكثير من القتلة باسم الشرف من العقوبة المخففة رغم أنها تشترط أن يفاجئ القاتل قريبته في جرم الزنا المشهود أو في صلات جنسية فحشاء، وهي حالة لم تكن تنطبق على أي من الجرائم المرتكبة باسم الشرف التي قرأنا أو سمعنا عنها. ولا زلنا نذكر حادثة منذ سنوات قريبة، قتل الأخوة فيها أختهم المتزوجة، لأنهم لاحظوا أنها بدأت تهتم بمظهرها وتستمع إلى أغاني أم كلثوم، مايشير حسب وجهة نظرهم أنها عاشقة، في حين كان زوجها يصرخ أنها شريفة، بريئة من كل ما يتهمها به إخوتها؟
وحتى بعد تعديل هذه المادة لتصبح عقوبة الجريمة خمس سنوات على الأقل، بقي المجرمون يجدون بمساعدة القضاة مواد أخرى تخفف عنهم العقوبة، منها:
المادة 242 :
يستفيد من العذر المخفف فاعل الجريمة الذي أقدم عليها بثورة غضب شديد ناتج عن عمل غير محق وعلى جانب من الخطورة أتاه المجنى عليه.
المادة 192:
إذا تبين للقاضي أن الدافع كان شريفاً قضى بالعقوبات التالية:
ـ الاعتقال المؤبد أو الخمس عشرة سنة بدلاً من الأشغال الشاقة المؤبدة.
ـ الاعتقال الموقت بدلاً من الأشغال الشاقة الموقتة.
ـ الحبس البسيط بدلاً من الحبس مع التشغيل.
تتعارض المادة 548 مع جوهر القانون وأداته السلطة القضائية، التي تملك وحدها حق الحكم على المواطنين عند ارتكابهم خطأ ما، وتطبيق العقوبات بحقهم، بدل أن توكل هذه المهمة للأفراد.
و يمكن اعتبار القانون وبالتالي القضاء من العوامل المحرضة على تلك الجرائم، للتساهل الواضح في الأحكام المتعلقة بالجرائم المرتكبة باسم الشرف، علما أن المواد القانونية المذكورة مثلها مثل جميع مواد قانون العقوبات وضعية، وضعها مشرعون استندوا إلى القوانين الغربية عند نشأة الدولة السورية الحديثة.
إن التعديلات الجزئية للمواد القانونية المتعلقة بتلك الجرائم لن تستطيع أن تحد من هذه الظاهرة، والدليل على ذلك أن التعديلين الذين طرأآ على المادة 548 لم ينتج عنهما تناقص عدد تلك الجرائم.
ولا أدري ما الذي يمنع من تطبيق جميع توصيات الملتقى الوطني لجرائم الشرف، الذي عقد في دمشق عام 2008، برعاية حكومية، وضم قانونيين وممثلين عن جميع الطوائف الدينية، ونوّابًا في مجلس الشعب، وناشطين، وخرج بالتوصيات التالية:
1- إعادة صياغة الفقرة الثالثة من المادة (192) المتعلّقة بالدافع الشريف، والتي تبيح للاجتهاد القضائي النزول بعقوبة القتل إلى الحبس ستة أشهرٍ أو سنةٍ على الأكثر. وبحيث لا تقل عقوبة القاتل عن الاعتقال 15 سنة.
2- إلغاء المادة( 548) من قانون العقوبات.
3- تشديد عقوبة الزنا للرجل والمرأة على قدم المساواة، المنصوص عليها بالمادتين (473) و(474)، وعقوبة السفاح المنصوص عليها في المادة (476) من قانون العقوبات.
4- تعميم فتاوى تحريم ارتكاب جريمة ما يسمى بجريمة الشرف وامتناع إفادة مرتكبيها من العذر المحل أو السبب المخفف للعقاب.
5- زيادة العمل التوعوي المستمر بالتعاون مع المؤسسات والاتحادات والنقابات والجمعيات ذات الصلة، لترسيخ ثقافة المساواة في المركز القانوني للجنسين من خلال التربية والتعليم ووسائل الإعلام والخطاب الديني، والعمل على إنشاء مرصد وطني لمتابعة هذا العمل التوعوي.
6- العمل على إصدار دورية تهتم بالشؤون الأسرية من قبل الهيئة السورية لشؤون الأسرة.
7- تكليف الهيئة المذكورة بالسعي المستمر لدى الجهات المعنية لتفعيل هذه التوصيات والوصول بها إلى المستوى التنفيذي من خلال خطة وطنية شاملة.
8- إقامة ملتقى وطني لتمكين وحماية الأسرة.
واللافت أن ممثلي جميع الطوائف الدينية الذين حضروا المؤتمر لم يعترضوا على تلك التوصيات، ومن اعترض عليها نواب مجلس الشعب الحاضرين، ومن بينهم نائبتان! بحجة أن تلك التعديلات تتعارض مع الشريعة الاسلامية، وأن التساهل في جرائم الشرف سيشجع على الرذيلة! وذلك ما نبه الموجودين إلى ذهنية نائبات مجلس الشعب اللاتي لم تكن أي منهن معنية لا بالنساء ولا بقضايا النساء.
من وجهة نظر الشريعة الإسلامية:
لا يوجد في القرآن الكريم أو السيرة النبوية الشريفة، ما يبيح لأحد الأفراد أن ينصب نفسه قاضيا، أو يصدر حكما أو ينفذه بحق أحد وإنما يوكل الأمر لأولي الأمر، الذين يمثلهم في عصرنا الحالي القانون والسلطة القضائية.
"واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا" النساء 15.
"والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون" النور4.
"واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما، إن الله كان توابا رحيما" النساء 16.
"الزاني والزانية فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة, ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين" النور2.
"الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة, والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين" النور3.
"واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله" الطلاق1.
ونتيجة لتعدد الأحكام في هذه الآيات نرى المفسرين يجتهدون بتفسيرات مختلفة، فنجد ابن عباس يقول بأن آية "واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما" نسخت آية الجلد، بينما يقول مجاهد السبيل الحد ويقول سفيان فآذوهما البكران فأمسكوهن في البيوت الثيبات (سنن أبي داوود).
إن قلة الحوادث المذكورة عن تطبيق عقوبة الرجم في السيرة النبوية الشريفة- طبقت على رجل وامرأتان: ماعز بن مالك الأسلمي، الغامدية، امرأة من جهينة- تجعل من الممكن الاعتقاد أنها لم تكن شائعة، بل حتى عقوبة الجلد، لأن تطبيقهما كان يستلزم توفر أحد الشروط التالية:
- البيّنة
- الاعتراف
- الحبل
ويقصد بالحبل حمل المرأة غير المتزوجة أو الغائب زوجها، وهو دليل قاطع طبعًا.
أما البيّنة فقد حذر الاسلام تحذيرًا شديدًا ممن يمكن أن يفتري على امرأة كذبًا، وأوقع فيه عقوبة تعادل العقوبة المفروضة على الزاني في القرآن الكريم
"وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم" النور 4،5
"إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم، يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبينٌ" النور 23، 24 ، 25
وما ينتظر الرامي للمحصنات عذاب عظيم ولعنة في الدنيا والآخرة، إلا إذا تاب وأصلح، أي أقر بكذبه وبرأ بذلك المرأة التي ادعى عليها كذبًا، وفي ذلك حفظ وصون لسمعة النساء وحمايتهن من الافتراء عليهن.
وقد وُضعت شروط شبه مستحيلة لإثبات وقوع الزنا، وذلك بأن يقر أربعة شهود أنهم رأوا التواصل الجنسي كاملًا بين الرجل والمرأة، ومن المعلوم كم من الصعب، بل ربما المستحيل إثبات ذلك.
وحتى لو رأى أحدهم امرأته مع رجل آخر كان لابد له من البيّنة.
يروى عن ابن عباس: "أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك ابن سحماء فقال النبي صلى الله عليه وسلم البينة أو حد في ظهرك فقال يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلًا ينطلق يلتمس البينة فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول البينة وإلا حد في ظهرك فقال هلال والذي بعثك بالحق إني لصادق فلينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد فنزل جبريل وأنزل عليه:
"والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلاّ أنفسهم فشهادة أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ويدرء عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم" (النور 6، ،7 ،8، 9، 10)
فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليها فجاء هلال فشهد والنبي صلى الله عليه وسلم يقول إن الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب ثم قامت فشهدت فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا إنها موجبة قال ابن عباس فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ثم قالت لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت فقال النبي صلى الله عليه وسلم أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدلج الساقين فهو لشريك ابن سحماء فجاءت به كذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن". (صحيح البخاري)
أي أن الرسول لم يطبق عليها حد الزنا حتى بعد تأكده من ارتكابها له، وتركها لتحاسب من الله حسب ما ورد من حكم في الآيات السابقة، التي ثبّتت ماسمي بالاسلام بحكم اللعان، حيث يكتفى بشهادتها خمس مرات كما ورد في الحادثة السابقة، فإن كذبت فسيحل عليها غضب الله، وعقوبتها ستكون في الآخرة وليست دنيوية.
وقد كان هذا الحكم صعب التصديق على رجال ذلك الزمان حتى راجع كثيرون منهم الرسول الكريم في ذلك وفي كل مرة كان يؤكد لهم الحكم السابق، كما حدث مع سعد بن عبادة الذي قال "لو رأيت رجلًا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح عنه فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أتعجبون من غيرة سعد فوالله لأنا أغير منه، والله أغير مني، من أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا شخص أغير من الله ولا شخص أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك بعث الله المرسلين مبشرين ومنذرين ولا شخص أحب إليه المدحة من الله من أجل ذلك وعد الله الجنة".( صحيح مسلم). ثم يؤكد له الحكم عندما راجعه فيه وسأله "يا رسول الله إن وجدت مع امرأتي رجلا أؤمهله حتى آتي بأربعة شهداء". فيقول له "نعم" (صحيح مسلم)
وقد بقيت تلك السنة متبعة فيما بعد عهد الرسول، فعن سعيد بن المسيب أن رجلا من أهل الشام يقال له ابن خيبري وجد مع امرأته رجلا فقتله أو قتلهما معا فأشكل على معاوية بن أبي سفيان القضاء فيه، فكتب إلى أبي موسى الأشعري يسأل له علي بن أبي طالب عن ذلك، فكان حكم علي: إن لم يأت بأربعة شهداء فليعط برمته (المنتقى شرح موطأ مالك).
ومن المعروف عدم وجود آية تثبت عقوبة الزنى بالرجم، وإن وجدت حادثتان في السيرة النبوية لم يأمر الرسول (ص) في أولاهما برجم الرجل إلا بعد إقراره وإصراره بأنه قد زنى، ومع هذا فإن الرسول الكريم عندما أُخبر أن الرجل هرب من شدة وطأة الرجم, علّق قائلًا للصحابة " هلا تركتموه"، وحكاية المرأة الغامدية التي يقال أنها رُجمت بعد أن عادها الرسول أن تستغفر وتتوب إلا أنها أصرت، ومع هذا لم يسمح برجمها إلا بعد أن وضعت، وقد صلى الرسول على هذه المرأة ولما سئل عن ذلك أجاب "لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم"، كما أن الرسول لم يشهد الرجم في الحالتين.
وهنا لا بد من ذكر الحادثة التي حدثت في زمن خلافة عمر بن الخطاب عندما "جاؤوه بامرأة زنت وأقرّت بالزنى، فأمر الخليفة برجمها، فقال علي بن أبي طالب: لعل بها عذرا، ثم سألها: "ما حملك على ما فعلت؟" قالت كان لي خليط وفي إبله ماء ولبن، ولم يكن في إبلي ماء ولا لبن. فظمئت فاستسقيته فأبى أن يسقيني حتى أعطيه نفسي، فأبيت عليه ثلاثًا، فلما ظمئت وظننت أن نفسي ستخرج أعطيته الذي أراد فسقاني. قال علي: الله أكبر " فمن اضطر غير باغ ولا عاد، فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم" فأخلى الخليفة سبيلها".
ومن الملاحظ في كل ذلك أن تطبيق العقوبة كان يتم ليس من قبل الأهل، بل من قبل أولي الأمر آنذاك، وذلك ما هو واضح من الآيات الكريمة والحوادث من السيرة النبوية، وذلك ما يعني القانون والسلطة القضائية بالمفهوم المعاصر، مع ملاحظة أن الخليفة عمر بن الخطاب، استمع إلى شهادة المرأة أولًا، والظروف التي قادتها لإقامة العلاقة الجنسية، أي أنها قُدمت إلى محاكمة عادلة، قبل أن يصدر الحكم ببراءتها، عندما اقتنع بالمبررات التي أجبرتها على القيام بالعلاقة الجنسية خارج إطار الشرعية، ولم يقر الإسلام أبدًا حق الأهل بالقصاص من ابنتهم، بل أوكل هذه المهمة لأولي الأمر.
من وجهة نظر اجتماعية:
كما ذكرنا ليس القاتل هنا سوى أداة تنفيذ لجريمة يقف خلفها تحريض العائلة/العشيرة/القبيلة، وقد كان من المفترض اختفاء تلك البنى القبلية العشائرية الطائفية التقليدية، والتي تعود إلى مرحلة ما قبل الدولة المدنية الحديثة، لو أن تطور الدولة الوطنية الحديثة سار في مساره الصحيح، إلا أن البنى السياسية السائدة اضعفت مفهوم المواطنة، وانتماء الفرد إلى البنى المجتمعية المدنية الحديثة، وعززت انتماءه إلى تلك البنى المتخلفة، وتفكك المجتمع إلى غيتوات قبلية، عشائرية، عائلية، مناطقية، طائفية وعرقية، وباتت كل بنية من هذه البنى، تحكم بأنظمة وقواعد خاصة بها، تشكل قوانين، تطغى على قانون الدولة الحديثة، فنرى شيوخ العشائر مثلا يفصلون بين أفراد عشيرتهم، في النزاعات المادية، وتتدخل العشائر المختلفة للتوسط في قضايا الثأر، وتدفع ديات الضحايا من قبل عشائر القتلة، ويضحى بالنساء في جرائم الشرف، في ظل قانون ينام على جميع هذه الممارسات، وسلطة تنفيذية تشجعها أحيانًا، بحيث نسمع لقاء مسؤولين بزعماء العشائر مثلًا، لا باعتبارهم مواطنين، بل زعماء متميزين، لهم حظوة ومكانة خاصة.
ونعود إلى الجريمة محور موضوعنا لنسأل هل يمكننا أن نلوم القاتل وحده وبالمطلق على تلك الجريمة البشعة التي نفذها؟ القاتل هو ابن بيئته، فمنذ نعومة أظافره رُبّي على المفاهيم القبلية العشائرية، وغُرس في عقله مفهوم أن شرفه من شرف أخته، وأي خطأ منها سينكس رأسه ورأس عائلته في التراب، ولا يغسل ذلك العار سوى الدم، وسوف يعامل بعد قتل أخته معاملة البطل المنتصر، مع وعود بوسائط ودفع أموال تقصّر فترة عقوبته إلى أشهر معدودات في أغلب الأحوال، حيث ستساهم العائلة، والعشيرة كلها، بل تستميت، في سبيل تخفيف العقوبة عنه، وكلها أشهر معدودة، يقضيها في السجن معززًا مكرمًا، وسيخرج بعدها، مرفوع الرأس، موفور المال، يعيش حياته راغدًا بالعطايا والهبات، التي سيقدمها له أفراد العائلة غير الراغبين بتلويث أيديهم، وغالبا ما يتم اختيار شاب من العائلة عاطل عن العمل، غير مستقر في حياته، يعطى الوعود بتأمين مستقبله، في حال قدم هذه الخدمة لعائلته، أو قاصر لايطاله قانون البالغين، وهنا تكون العائلة قد ارتكبت جريمة مضاعفة بتحويله من طفل إلى مجرم قاتل.
لذا فالعقوبة لابد أن تطال هنا المحرضين على ارتكاب الجريمة تماما كمرتكبها.
لا نزعم أن هذا هو الحل، فتطبيق عقوبات قاسية بحق مرتكبي هذه الجرائم والمحرضين عليها، ربما يساهم في ردع من يفكر بالإقدام عليها، لكنه لا يمثل إلا جزءًا من الحل.
لابد من بحث الجذور المحرضة على هذه الجرائم، وتصحيح الأوضاع الاجتماعية العرجاء، وتغيير المفاهيم المتخلفة المبنية على منظومة فكرية ذكورية متسلطة، بإعادة الاعتبار أولًا إلى النساء في الوطن، مواطنات كاملات الحقوق والواجبات، وإلغاء جميع المواد القانونية التي تحمل تمييزًا ضد المرأة، وعلى رأسها هنا، المادة 548 حول العذر المخفف في القتل والإيذاء المتعلق بما يسمى جرائم الشرف، واعتبار جرائم قتل النساء، جرائم قتل مواطنين في هذا البلد، تطبق على قتلتهم العقوبات التي تطال أي مجرم يقتل مواطنًا، وإعادة الاعتبار لهيبة القانون، واستقلالية القضاء ونزاهته- فالقانون وحده صاحب الحق في تجريم الناس، وإصدار أحكام ضدهم، وتطبيق عقوبات بحقهم- وتعزيز مفهوم المواطنة، وتساوي جميع المواطنين في وأمام القانون بغض النظر عن جنسهم وعرقهم ودينهم وطائفتهم، ولن يتحقق ذلك إلاّ في ظل حماية وسلطة قانون عادل يضمن الحماية والعدل لجميع المواطنين.
ولابد أن يتزامن ذلك مع نشر ثقافة بديلة، تغير نظرة المرأة إلى نفسها، ونظرة الرجل إليها، بحيث تعتبر إنسانًا كامل الأهلية، مواطنًا كامل الحقوق والواجبات، وتغيير مفهوم الشرف، ليصبح مفهومًا مبنيًا على الصدق والأمانة والإخلاص في العمل، والمحبة والتعاون، وحب الوطن، والسعي نحو تقدمه ونمائه، ولا بد من تشجيع مؤسسات المجتمع المدني، التي تحمل جلّ المسؤولية في نشر هذه الثقافة البديلة، وتتشارك مع المؤسسات الحكومية في الدفاع عن مصالح الفئات المجتمعية التي تمثلها، عندها فقط نستطيع أن نصل إلى يوم تصبح فيه هذه الجرائم من الذكريات المنسية التي يتمنى كل منا محوها من ذاكرته.