Pages Menu
Categories Menu

عن أي حقوق تتحدثون؟ (1)

05/04/2021

د. ميّة الرحبي

في مقابلة تلفزيزنية يظهر فيها الجولاني لطيفاً مهذباً مهندماً مدافعاً عن حقوق الإنسان، بل مزاوداً حتى على منظمات حقوق الإنسان وداعياً إياها لزيارة سجونه والتأكد أن سجناءه ينعمون بالمعاملة الإنسانية الكريمة.

يذكرني ذلك بأحد قادة الميليشيات أثناء الحرب اللبنانية عندما سألوه عن المعتقلين في سجون جماعته، فأجاب ضاحكاً: معتقلين؟ نحنا ما عنا معتقلين، قتلناهن كلهن.

لنذّكّر السيد الجولاني بأنه منذ أيام فقط نفذت “هيئة تحرير الشام” في إدلب حكم “الرجم” حتى الموت على أربعة أشخاص بينهم امرأة، بتهمة الزنا والدعارة، في أحد أسواق المدينة، بعد مثولهم أمام ما تعتبره الهيئة “محكمة شرعية”. حسبما ورد في مقال لمجلة القدس العربي نشر في في 30 آذار 2021 بعنوان “تحرير الشام تنفذ حد الرجم في إدلب السورية بأربعة أشخاص بينهم امرأة”.

ويرد في المقال أن الشيخ ماجد الحلبي وهو شرعي في إدلب قال لـ القدس العربي “إن رجم الزاني حدٌّ من حدود الله لا يقبل التجرؤ عليه، أو التهاون في تطبيقه ضمن شروط”.
ويقول الشيخ ماجد في حديثه لـالقدس العربي “إن حد الرجم حكم شرعي يطبقه إمام المسلمين أو من ينوب عنه، بعد اعتراف الزاني المحصن المتزوج بفعلته بشكل صريح يصل إلى حد اليقين، أو أن يشهد عليه أربعة شهود بشكل منفصل، على وقوع ذلك أمام أعينهم، مع وصفها بشكل دقيق”.

لن أرد على الجولاني أو الشيخ الحلبي بأننا نعيش في القرن الحادي والعشرين أو أن هنالك اتفاقيات ومعاهدات دولية وقانوناً دولياً لحقوق الإنسان يتضمن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهدين الدوليين واتفاقية السيداو واتفاقية حقوق الطفل، مفترضة أن الجولاني لم يسمع بهما أو لا يعترف بهما ولكن سأرد عليه بما يعترف عليه.

ولن أرد أيضا بأننا نعيش في عصر يفترض فيه وجود دولة تقوم على أساس العدل والحق والقانون، دولة المواطنة المتساوية، فلو كانت موجودة في سوريا لما تجرأ لا الجولاني ولاغيره على أن يعبث بحيوات الناس ومصائرهم كيفما يشاء، فما هو موجود الآن في سوريا، وطننا الجريح الممزق، نظام مستبد قتل شعبه وشرد الملايين ودمر ماضي سوريا وحاضرها ومستقبلها، وهو المسؤول الأول والأخير عن وجود سلطات أمر واقع تطبق ما شاء لها من القوانين على من تشاء من البشر، وجيوش وميليشيات خمس دول تتقاسم تخريب والعبث بالبلد وأهله وممتلكاته وخيراته.

ليس لدينا دولة  ولا قانون ولا مجتمع دولي يعبأ بما حدث ويحدث لبلدنا وشعبنا، تماماً كما حدث لدول وشعوب أخرى أعمى المجتمع الدولي عينيه عن مآسيها، فمن هو المجتمع الدولي أساساً غير القوى العظمى في العالم التي لا تعبأ بغير مصالحها والصفقات التي تتبادل فيها هذه المصالح على حساب الشعوب المهمشة المبتلية بأنظمة استبدادية لايهمها سوى النهب والسرقة والبقاء في السلطة مهما كان الثمن؟

وكما اضطررنا أن نرد على النظام السوري الذي يدعي العلمانية بأنه لايعرف معنى العلمانية، يبدو أننا مضطرون أن نرد على الجولاني بأنه لايعرف الشريعة الإسلامية.

في القراءة السياقية التاريخية للسيرة النبوية التي اتبعتها في كتابي الإسلام والمرأة لم أجد في المراجع التاريخية ما يؤكد أن عقوبة الرجم كانت سائدة في مجتمع شبه الجزيرة قبل الاسلام، ويبدو أن المجتمع الإسلامي الوليد قد استقاها من اليهود، الذين كانوا يقيمون في يثرب، فهي ترد واضحة صريحة في التوراة، ومعروف أن السيد المسيح وقف ضدها، وقال كلمته الشهيرة عندما أراد الناس رجم المجدلية “من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر”.

وفي هذا الصدد نقرأ في كتب التراث الإسلامي الحادثة التالية:

عن عبد الله بن عمر ‏ ‏رضي الله عنهما ‏ ‏أنه قال:‏ إن ‏ ‏اليهود ‏ ‏جاءوا إلى رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏فذكروا له أن رجلا منهم ‏ ‏وامرأة ‏ ‏زنيا فقال لهم رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏ما تجدون في التوراة في شأن الرجم فقالوا نفضحهم ويجلدون قال ‏ ‏عبد الله بن سلام ‏ ‏كذبتم إن فيها الرجم فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع ‏ ‏أحدهم ‏ ‏يده على ‏ ‏آية الرجم ‏ ‏فقرأ ما قبلها وما بعدها فقال له ‏ ‏عبد الله بن سلام ‏ ‏ارفع يدك فرفع يده فإذا فيها ‏ ‏آية الرجم ‏ ‏قالوا صدق يا ‏ محمد ‏فيها ‏آية الرجم ‏ ‏فأمر بهما رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏فرجما فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة”. ‏(صحيح البخاري).

من المؤكد أن عقوبة الرجم طبقت في بداية عهد نشوء الدولة في المدينة، ولكن كيف ومتى؟ وإذا كان الرجم حدّاً من الحدود في الاسلام فهل من المعقول أن لا ترد في القرآن الكريم آية صريحة تثبت تلك العقوبة؟

وهل صحيح ما نسب إلى عمر بن الخطاب عن ابن عباس عندما قال “جلس ‏ ‏عمر ‏ ‏على المنبر فلما سكت المؤذنون قام فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال أما بعد فإني قائل لكم مقالة قد قدر لي أن أقولها لا أدري لعلها بين يدي أجلي فمن عقلها ووعاها فليحدث بها حيث انتهت به ‏ ‏راحلته ‏ومن خشي أن لا يعقلها فلا أحل لأحد أن يكذب علي إن الله بعث ‏ ‏محمدا ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل الله آية الرجم فقرأناها وعقلناها ووعيناها رجم رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏‏ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف”. (صحيح البخاري).

وإذا كان صحيحا ما نسب إلى الخليفة عمر بن الخطاب فأين تلك الآية؟ إن ما يدعو للشك في صحة الرواية السابقة أنها رويت بأشكال أخرى:

“عن ابن عباس‏ ‏قال قال ‏عمر لقد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل لا نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله ‏ألا وإن الرجم حق على من زنى وقد أحصن إذا قامت البينة أو كان الحبل أو ‏الاعتراف ‏قال ‏ ‏سفيان ‏كذا حفظت ‏ألا وقد رجم رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏ورجمنا بعده”.(صحيح البخاري).

وفي هذه الرواية يصف عمر بن الخطاب الرجم بالفريضة لكنه لايذكر وجود آية تتعلق بالرجم، وفي رواية أخرى:

“عن ‏‏عمر بن الخطاب ‏‏قال ‏ رجم رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏ورجم ‏أبو بكر ‏ورجمت ولولا أني أكره أن أزيد في كتاب الله لكتبته في المصحف فإني قد خشيت أن تجيء أقوام فلا يجدونه في كتاب الله فيكفرون به”. (سنن الترمذي).

وفي الرواية الأخيرة يتضح أن حرص الخليفة عمر بن الخطاب على ايقاع أشد العقوبة بالزناة، هو الذي جعله يقول “ولولا أني أكره أن أزيد في كتاب الله لكتبته في المصحف”. ولعل جملته هذه حرفت اثناء تناقلها حتى وصلت إلى أن نسب إلى عمر القول بوجود آية الرجم.

ويبدو أن عقوبة الرجم طبقت في عهد الرسول، ثم استبدلت فيما بعد بالعقوبات الأخرى الموجودة في آيات سورة النور كما ورد في الحديث التالي:

“حدثني ‏ ‏إسحاق ‏ ‏حدثنا ‏ ‏خالد ‏ ‏عن ‏ ‏الشيباني ‏ ‏سألت ‏ ‏عبد الله بن أبي أوفى ‏ هل رجم رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏قال نعم قلت قبل سورة النور أم بعد قال لا أدري”. (صحيح البخاري).

واضطر الخليفة عمر بن الخطاب إلى العودة لها تشددا، بعد أن ظهر له استمرار صعوبة ضبط المجتمع الذي استمرت فوضاه حتى عهده.

وتختلف في القرآن الكريم عقوبة الزنا من آية إلى أخرى، بشكل لايمكن تفسيره إلا بتطور الأحكام المتعلقة بالزنا في فترة الرسالة، تبعاً لتغير الأحوال.

ترد عقوبة الزنا في الآيات التالية:

“واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا”. (النساء 15).

“واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما، إن الله كان توابا رحيما”. (النساء 16)

“الزاني والزانية فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة، ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين”. (النور2).

“الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة، والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين”. (النور 3).

“واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله”. (الطلاق 1).

ومن الملاحظ اختلاف الأحكام في هذه المسألة من الجلد إلى الحبس في البيت كعقوبة للنساء اللاتي يرتكبن الفاحشة في آية النساء 15، أو على العكس الطرد من بيت الزوجية في آية الطلاق 1، إلا أن الصفح عن الزناة بعد تطبيق العقوبة وارد كما في آية النساء 16. 

‏ونتيجة لتعدد الأحكام في هذه الآيات نرى المفسرين يجتهدون بتفسيرات مختلفة، فنجد ابن عباس يقول بأن آية “‏واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما” ‏نسخت آية الجلد، بينما يقول مجاهد ‏ ‏السبيل الحد ‏ويقول‏ ‏سفيان ‏ ‏فآذوهما البكران ‏‏فأمسكوهن في البيوت ‏‏الثيبات (سنن أبي داوود). ‏  

إن قلة الحوادث المذكورة عن تطبيق عقوبة الرجم في السيرة النبوية الشريفة- طبقت على رجل وامرأتان: ماعز بن مالك الأسلمي، الغامدية، امرأة من جهينة- تجعل من الممكن الاعتقاد أنها لم تكن شائعة، وطبقت فترة محدودة في بداية عهد المدينة، بل حتى عقوبة الجلد يبدو أنها لم تكن شائعة أيضاً، لأن تطبيقهما كان يستلزم توفر أحد الشروط التالية:

– البينة

    – الاعتراف

    – الحبل

ويقصد بالحبل حمل المرأة غير المتزوجة أو الغائب زوجها، وهو دليل قاطع طبعاً.

أما البينة فقد حذر الاسلام تحذيرا شديدا لمن يفتري على امرأة كذباً، وأوقع فيه عقوبة تعادل العقوبة المفروضة على الزاني في القرآن الكريم

“وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم”. (النور4،5).

“إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم، يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبينٌ” (النور 23، 24 ، 25).

وما ينتظر الرامي للمحصنات عذاب عظيم ولعنة في الدنيا والآخرة، إلا إذا تاب وأصلح، أي أقر بكذبه وبرأ بذلك المرأة التي ادعى عليها كذبا، وفي ذلك حفظ وصون لسمعة النساء وحمايتهن من الافتراء عليهن.

وقد وضعت شروط شبه مستحيلة لإثبات وقوع الزنا، وذلك بأن يقر أربعة شهود أنهم رأوا التواصل الجنسي كاملا بين الرجل والمرأة، ومن المعلوم كم من الصعب، بل ربما المستحيل إثبات ذلك.

وحتى لو رأى أحدهم امرأته مع رجل آخر كان لابد له من البينة.

يروى ‏عن ‏ ‏ابن عباس ‏ “أن ‏هلال بن أمية ‏ ‏قذف امرأته عند النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏بشريك ابن سحماء ‏ ‏فقال النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏البينة أو حد في ظهرك، فقال يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة فجعل النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏يقول البينة وإلا حد في ظهرك فقال ‏ ‏هلال ‏ ‏والذي بعثك بالحق إني لصادق فلينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد فنزل ‏ ‏جبريل ‏ ‏وأنزل عليه؛

“وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ۙ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ. وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ. وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ۙ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ. وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ. وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيم” (النور 6، ،7 ،8، 9، 10) فانصرف النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏فأرسل إليها فجاء ‏ ‏هلال ‏ ‏فشهد والنبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏يقول إن الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب ثم قامت فشهدت فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا إنها موجبة قال ‏ ‏ابن عباس ‏ ‏فتلكأت ‏ ‏ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ثم قالت لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت فقال النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏أبصروها فإن جاءت به ‏ ‏أكحل العينين ‏ ‏سابغ ‏ ‏الأليتين ‏ ‏خدلج ‏ ‏الساقين فهو ‏ ‏لشريك ابن سحماء ‏ ‏فجاءت به كذلك فقال النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن”. (صحيح البخاري).

أي أن الرسول لم يطبق عليها حد الزنا حتى بعد تأكده من ارتكابها له، وتركها لتحاسب في الآخرة حسب ما ورد من حكم في الآيات السابقة، التي ثبتت ماسمي بالاسلام بحكم اللعان، حيث يكتفى بشهادتها خمس مرات كما ورد في الحادثة السابقة فإن كذبت فسيحل عليها غضب الله وعقوبتها ستكون في الآخرة وليست دنيوية.

وقد كان هذا الحكم صعب على التصديق على رجال ذلك الزمان حتى راجع كثيرون منهم الرسول في ذلك، وفي كل مرة كان يؤكد لهم الحكم السابق، كما حدث مع سعد بن عبادة الذي قال “‏لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح عنه فبلغ ذلك رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏فقال ‏ ‏أتعجبون من غيرة ‏ ‏سعد ‏ ‏فوالله لأنا أغير منه والله أغير مني من أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا شخص أغير من الله ولا شخص أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث الله المرسلين مبشرين ومنذرين ولا شخص أحب إليه المدحة من الله من أجل ذلك وعد الله الجنة”. ( صحيح مسلم). ثم يؤكد له الحكم عندما راجعه فيه وسأله “يا رسول الله ‏‏إن وجدت مع امرأتي رجلا أؤمهله حتى آتي بأربعة شهداء فيقول له: نعم”. (صحيح مسلم).

وقد بقيت تلك السنة متبعة فيما بعد عهد الرسول، فعن سعيد بن المسيب “‏أن رجلا من أهل ‏ ‏الشام ‏ ‏يقال له ‏ ‏ابن خيبري ‏ ‏وجد مع امرأته رجلا فقتله ‏ ‏أو قتلهما معا ‏ ‏فأشكل على ‏ ‏معاوية بن ‏ أبي سفيان ‏ ‏القضاء فيه فكتب إلى ‏ ‏أبي موسى الأشعري ‏ ‏يسأل له ‏علي بن أبي طالب ‏ ‏عن ذلك فسأل ‏ ‏أبو موسى ‏عن ذلك ‏علي بن أبي طالب ‏ ‏فقال له ‏ ‏علي ‏ ‏إن هذا الشيء ما هو بأرضي عزمت عليك لتخبرني فقال له ‏ ‏أبو موسى ‏ ‏كتب إلي ‏ ‏معاوية بن أبي سفيان ‏أن أسألك عن ذلك فقال ‏علي ‏أنا ‏أبو حسن ‏ ‏إن لم يأت بأربعة شهداء ‏ ‏فليعط برمته”.(المنتقى شرح موطأ مالك).

ومن الحوادث التي تؤكد حرص الاسلام على البينة والتأكيد عليها، تلك الحادثة الشهيرة بين أبي بكرة والمغيرة بن شعبة، حين بصر أبو بكرة من بيته هو وثلاثة رجال آخرين المغيرة “وهو بين رجلي امرأة”، ادعوا أنها ليست زوجته بل امرأة تدعى أم جميل، وعندما مثلوا بين يدي الخليفة عمر بن الخطاب أنكر المغيرة أنه زنا وقال : والله ما أتيت إلا امرأتي، فشهد أبو بكرة أنه رآه بين رجلي أم جميل وهو يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة، وشهد الاثنان الآخران – شبل ونافع – بمثل شهادة أبي بكرة، إلا أن الرابع زيادا قال: رأيته جالسا بين رجلي امرأة، فسأله عمر: هل رأيت كالميل في المكحلة؟ قال : لا، قال: فهل تعرف المرأة؟ قال:لا، ولكن أشبهها، قال: فتنح، وأمر بالثلاثة فجلدوا الحد وقرأ  “فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون”. (الطبري ج2، ص 494).

الاعتراف:

‏ لا شك أن الرسول الكريم كان يكره عقوبة الرجم، بل يحاول تفاديها ما أمكن، فكان يستعيد الزاني الذي يعترف أربع مرات محاولا إقناعه بالعدول عن اعترافه، بل أنه أمر الناس بالستر.

عن ‏ ‏زيد بن أسلم ‏أن رجلا اعترف على نفسه بالزنا على عهد رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏فدعا له رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏بسوط فأتي بسوط مكسور فقال فوق هذا فأتي بسوط جديد لم تقطع ‏ ‏ثمرته ‏ ‏فقال دون هذا فأتي بسوط قد ‏ ‏ركب به ‏ ‏ولان فأمر به رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏فجلد ثم قال ‏ ‏أيها الناس قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود الله من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله فإنه من ‏ ‏يبدي لنا صفحته ‏ ‏نقم عليه كتاب الله”. (المنتقى شرح موطأ مالك).

ولكن عندما كان الزاني يصر على الاعتراف بذنبه، رغبة منه بالتطهر قبل أن يلاقي وجه ربه، لم يكن الرسول يجد بدا من تطبيق العقوبة عليه كارها، وكان في جميع الحوادث الواردة في السنة النبوية رفيقا متألما، مشفقا على المعاقب، مدافعا عنه. 

“عن ‏ ‏جابر‏ أن رجلا من ‏ ‏أسلم ‏ ‏أتى النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏وهو في المسجد فقال إنه قد زنى فأعرض عنه فتنحى لشقه الذي أعرض فشهد على نفسه أربع شهادات فدعاه فقال هل بك جنون هل أحصنت قال نعم ‏ ‏فأمر به أن يرجم بالمصلى فلما أذلقته الحجارة جمز حتى أدرك ‏ ‏بالحرة ‏ ‏فقتل”. (صحيح البخاري).

كما يروى عن‏ ‏سليمان بن بريدة ‏‏عن ‏ أبيه‏ ‏قال “جاء ‏ ‏ماعز بن مالك ‏ ‏إلى النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏فقال يا رسول الله ‏ ‏طهرني ‏فقال ‏ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إليه قال فرجع غير بعيد ثم جاء فقال يا رسول الله ‏ ‏طهرني ‏ ‏فقال رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إليه قال فرجع غير بعيد ثم جاء فقال يا رسول الله ‏ ‏طهرني ‏ ‏فقال النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏مثل ذلك حتى إذا كانت الرابعة قال له رسول الله فيم أطهرك فقال من الزنى فسأل رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏أبه جنون فأخبر أنه ليس بمجنون فقال أشرب خمرا فقام رجل ‏ ‏فاستنكهه ‏ ‏فلم يجد منه ريح خمر قال فقال رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏أزنيت فقال نعم فأمر به ‏ ‏فرجم ‏ ‏فكان الناس فيه فرقتين قائل يقول لقد هلك لقد أحاطت به خطيئته وقائل يقول ما توبة أفضل من توبة ‏ ‏ماعز ‏ ‏أنه جاء إلى النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏فوضع يده في يده ثم قال اقتلني بالحجارة قال فلبثوا بذلك يومين ‏ ‏أو ثلاثة ‏ ‏ثم جاء رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏وهم جلوس فسلم ثم جلس فقال استغفروا ‏ ‏لماعز بن مالك ‏ ‏قال فقالوا غفر الله ‏ ‏لماعز بن مالك ‏ ‏قال فقال رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم قال ثم جاءته امرأة من ‏ ‏غامد ‏ ‏من ‏ ‏الأزد ‏ ‏فقالت يا رسول الله ‏ ‏طهرني ‏ ‏فقال ويحك ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه فقالت أراك تريد أن ترددني كما رددت ‏ ‏ماعز بن مالك ‏ ‏قال وما ذاك قالت إنها حبلى من الزنى فقال ‏آنت قالت نعم فقال لها حتى تضعي ما في بطنك قال فكفلها رجل من‏ ‏الأنصار ‏حتى وضعت قال فأتى النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏فقال قد وضعت ‏ ‏الغامدية ‏ ‏فقال إذا لا ‏ ‏نرجمها ‏ ‏وندع ولدها صغيرا ليس له من يرضعه فقام رجل من ‏الأنصار ‏فقال إلي رضاعه يا نبي الله قال ‏ ‏فرجمها”. (صحيح مسلم).

‏وفي رواية أخرى

“قال فجاءت ‏ ‏الغامدية‏ ‏فقالت يا رسول الله إني قد زنيت فطهرني وإنه ردها فلما كان الغد قالت يا رسول الله لم تردني لعلك أن تردني كما رددت ‏ ‏ماعزا ‏ ‏فوالله إني لحبلى قال إما لا فاذهبي حتى تلدي فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة قالت هذا قد ولدته قال اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز فقالت هذا يا نبي الله قد فطمته وقد أكل الطعام فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها وأمر الناس ‏ ‏فرجموها ‏ ‏فيقبل ‏ ‏خالد بن الوليد ‏ ‏بحجر فرمى رأسها ‏ ‏فتنضح ‏ ‏الدم على وجه ‏ ‏خالد ‏ ‏فسبها فسمع نبي الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏سبه إياها فقال مهلا يا ‏ ‏خالد ‏ ‏فوالذي نفسي بيده ‏ ‏لقد تابت توبة لو تابها صاحب ‏مكس ‏لغفر له ثم أمر بها فصلى عليها ودفنت”. (صحيح مسلم بشرح النووي).

ويروى عن ‏‏عمران بن حصين “ أن امرأة من ‏ ‏جهينة ‏ ‏أتت نبي الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏وهي حبلى من الزنى فقالت يا نبي الله ‏ ‏أصبت حدا ‏ ‏فأقمه علي فدعا نبي الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏وليها فقال أحسن إليها فإذا وضعت فأتني بها ففعل فأمر بها نبي الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏فشكت ‏ ‏عليها ثيابها ثم أمر بها ‏ ‏فرجمت ‏ ‏ثم صلى عليها فقال له ‏عمر ‏تصلي عليها يا نبي الله وقد زنت فقال ‏ ‏لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل ‏ ‏المدينة ‏ ‏لوسعتهم وهل وجدت توبة أفضل من أن جادت بنفسها لله تعالى”. ‏(صحيح مسلم)

‏عن ‏ ‏أبي هريرة ‏ ‏قال ‏” جاء ‏ ‏ماعز الأسلمي ‏ ‏إلى رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏فقال إنه قد زنى فأعرض عنه ثم جاء من ‏ ‏شقه ‏ ‏الآخر فقال يا رسول الله إنه قد زنى فأعرض عنه ثم جاء من ‏ ‏شقه ‏ ‏الآخر فقال يا رسول الله إنه قد زنى فأمر به في الرابعة فأخرج إلى ‏ ‏الحرة ‏ ‏فرجم بالحجارة فلما وجد مس الحجارة فر ‏ ‏يشتد ‏ ‏حتى مر برجل معه ‏ ‏لحي ‏ ‏جمل فضربه به وضربه الناس حتى مات فذكروا ذلك لرسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏أنه فر حين وجد مس الحجارة ومس الموت فقال رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏هلا تركتموه”. (سنن الترمذي).

ويستشف من الأحاديث أن الرسول لم يشهد الرجم بنفسه، ولم يرجم. 

وهنا لا بد من ذكر الحادثة التي حدثت في زمن خلافة عمر بن الخطاب عندما جاؤوه بامرأة زنت وأقرت بالزنى، فأمر الخليفة برجمها، فقال علي بن أبي طالب: لعل بها عذرا ، ثم سألها: “ما حملك على ما فعلت؟ ” قالت كان لي خليط وفي إبله ماء ولبن، ولم يكن في إبلي ماء ولا لبن. فظمئت فاستسقيته فأبى أن يسقيني حتى أعطيه نفسي، فأبيت عليه ثلاثا، فلما ظمئت وظننت أن نفسي ستخرج أعطيته الذي أراد فسقاني. قال علي: الله أكبر “فمن اضطر غير باغ ولا عاد، فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم” فأخلى الخليفة سبيلها.

خلاصة القول فإن القراءة السياقة التاريخية تثبت صحة وجهة نظر الشيخ أبو زهرة، الذي تجرأ في السبعينات من القرن الماضي أن يفجر ما سمي وقتها “قنبلة” داخل مؤتمر إسلامي عندما قال بأن الرجم كان شريعة يهودية، أقرَّها الرسول في أول الأمر، ثم نُسخت بحد الجلد في سورة النور.

وقد لخص رأيه في هذا الموضوع بالقول في قضية الرجم:

أن الرجم كان شريعة يهودية، أقرَّها الرسول في أول الأمر، ثم نُسخت بحد الجلد في سورة النور. وقدم في ذلك أدلة ثلاثة:

الأول: أن الله تعالى قال: «فإذا أُحصِنَّ فإن أَتيْنَ بفاحشةٍ فَعَليهنَّ نِصفُ ما على المُحصناتِ مِن العذابِ» [النساء: 25]، والرجم عقوبة لا تتنصف، فثبت أن العذاب في الآية هو المذكور في سورة النور: «وليَشْهَد عَذَابهما طائفة من المؤمنين» [النور: 2].

والثاني: ما رواه البخاري في جامعه الصحيح عن عبد الله بن أوفى أنه سُئل عن الرجم، هل كان بعد سورة النور أم قبلها؟ فقال: لا أدري. فمن المحتمل جدًّا أن تكون عقوبة الرجم قبل نزول آية النور التي نسختها.

الثالث: أن الحديث الذي اعتمدوا عليه، وقالوا: إنه كان قرآنًا ثم نُسخت تلاوته وبقي حكمه أمر لا يُقرِّه العقل، لماذا تنسخ التلاوة والحكم باق? وما قيل: إنه كان في صحيفته فجاءت الداجن وأكلتها لا يقبله منطق.

إن الثورة التي قوبل بها الشيخ ابو زهرة عندما تجرأ وحكم العقل في الاجتهاد هي امتداد للظلامية التي امتدت قروناً تخرس العقل والمنطق حتى في تحليل التاريخ وسياقه، ولم يكن الشيخ أبو زهرة أول من هوجم من قبل من يعطون لأنفسهم حق الحكم والتصرف بحيوات الناس ومصائرهم، بل كل المفكرين الإسلاميين العقلاء على مدى القرون الماضية الذين حاولوا أن يشيروا إلى جوهر الدين وعدم تسيسه واستخدامه أداة لفرض الهيمنة والتسلط على رقاب البشر.

ليس الجولاني الأول ولن يكون الأخير فالتاريخ البشري حافل بالسلطات المستبدة التي تفسر الأديان على هواها، مستخدمة إياه أداة تحكم وتسلط، ولا تعدم تلك السلطات مشرعين يفصلون الدين والقانون على قياسها.

ولكن التاريخ نفسه يثبت لنا بما لا يدع مجالا للشك أيضاً أن الطغاة ذاهبون، والمستقبل لدولة الحق والقانون، دولة الحريات والحقوق والمساواة، حيث لا مكان لمتسلط بل لحكم الشعب نفسه بنفسه. المستقبل للدولة المحايدة تجاه كل العقائد والأديان والطوائف، ضامنة حق كل مواطن في ممارسة شعائره الدينية ومعتقداته على أن يمتثل لحكم الدولة القائم على احترام حقوق المواطنين وحرياتهم دون تمييز بينهم على أي أساس كان.

شاركنا رأيك، هل من تعليق ؟

Your email address will not be published. Required fields are marked *